الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: السلوك لمعرفة دول الملوك **
فرقت مثالات أجناد الحلقة. وأقطعت البلاد للأمراء والأجناد دربستا لم يستثن منها سوى الجوالي والمواريث الحشرية فإنها من جملة الخاص السلطاني وسوى الرزق الأحباسية وما عدا ذلك فإنه داخل في الإقطاع وحولت سنة ست وتسعين إلى سنة سبع وتسعين على العادة. وتولى تفرقة المثالات على الأمراء والمقدمين السلطان فبان له في وجوههم التغير لقلة العبرة وهم بزيادتهم. فمنعه منكوتمر من فتح هذا الباب وحذره أنه متى فتح باب الزيادة تعب ولكن من تضرر من إقطاعه يحيله على منكوتمر ففعل السلطان ذلك. وتولى تفرقة مثالات الأجناد منكوتمر فجلس بشباك دار النيابة ووقف الحجاب بين يديه وأعلى لكل تقدمة مثالا بها فلم وكانت الإقطاعات قد تناقصت عما كانت عليه في الدولة المنصورية قلاوون فإن أقلها كان يتحصل منه عشرة آلاف درهم وأكثرها ينيف على ثلاثين ألفا فصار أكثرها يبلغ عشرين ألفا فعمل في هذا الروك أكثر الإقطاعات يتحصل منه عشرة آلاف فشق ذلك على الأجناد وتجمعت طائفة منهم ورموا مثالاتهم وقالوا: إنا لم نعتد بمثل هذا فإما أن تعطونا ما يقوم بكفايتنا وإلا فخذوا أخبازكم وإما نخدم الأمراء أو نقيم بطالين. فحنق منهم منكوتمر وأمر الحجاب فضربوهم وأخذ سيوفهم وسجنهم وبالغ في الفحش وصار ينظر إلى الأمراء ويقول: أيما قواد يجيء يشتكي من خبزه ويقول أعرف السلطان فإني أعرف إيش يقول السلطان فإما أن يرضى يخدم وإلا فإلى لعنة الله. فعرف الأمراء أنه يعنيهم فسكتوا على ضغن وبلغ السلطان ذلك عن منكوتمر فأنكر عليه وأمره الزيادة في الإقطاعات فلم يفعل وأقام الأجناد في السجن مدة أيام ثم أفرج عنهم. فكان هذا الروك أكبر الأسباب في زوال الدولة. وفيها أنعم بطبلخاناه الأمير سيف الدين بلبان الفاخري نقيب الجيش بعد موته على الأمير سيف الدين بكتمر الحسامي أمير آخور وكان السلطان قبل ذلك قد أعطاه إمرة عشرة. واستقر سيف الدين كرت أمير آخور في نيابة طرابلس بعد وفاة عز الدين أيبك الموصلي. وفيها عدم الثلج بدمشق وغارت العيون وهلك أكثر الزرع وحفت أشجار البساتين.وفيها بلغ سيف الدين جاغان شاد الدواوين بدمشق أن للأمير عز الدين الجناحي نائب غزة وديعة عند رحل فاستدعى به بعد موت الجناحي وطالبه فقال: قد أخذ الوديعة قبل موته. فلما أراد عقوبته حضر إليه فخر الدين الإعزازي أحد تجار دمشق وقال: إن هذه الوديعة أخذها الجناحي من هذا الرجل وجعلها تحت يدي وأحضر صندوقاً فوحد الأمير جاغان فيه اثنين وثلاثين ألف دينار ومائتي وأربعة وثلاثين دينارا عينا وحوائص وطرزا قيمتها خمسون ألف دينار. وفيها خرج الأمير سيف الدين حمدان بن صلغاي إلى بلاد الشام في صورة أنه يستحث العساكر على أخذ سيس وقد لقنه الأمير منكوتمر أموراً مكتومة كان فيها زوال الدولة ومنها أنه يفرج عن الأمير كرجي من قلعة دمشق ويسفره إلى سيس ويتفق هو وأيدغدي شقير المتوجه قبله صحبة بكتمر السلاح دار مع جماعة من خشداشيته على ما يأتي ذكره. وفيما أنعم على صمغار بن سنقر بإمرة وأنعم على كل من بن أيتمش السعدي وسيف الدين طقصبا الظاهري بإمرة. وفيها قدم الأمير حسام الدين مهنا بن عيسى أمير العرب فأكرمه السلطان وألبسه خلعة طرد وحش وهو أول من ألبس ذلك لآل مهنا وإنما كانت خلعهم مسمطا أو كنجيا. واستأذن مهنا وفيها قوي أمر منكوتمر وتحكم تحكمة الملوك في جميع أمور المملكة وقصد إخراج طغجي أيضاً من مصر ففطن طغجي لذلك فسأل الإذن في السفر إلى الحج فأذن له وعمل أمير الركب. وفيها بعث منكوتمر إلى قاضي القضاة تقي الدين محمد بن دقيق العيد يعلمه أن تاجراً قد مات وترك أخا و لم يخلف غيره ممن يرثه وأراد أن يثبت استحقاقه الإرث بمجرد هذا الإخبار عنه. فلم يوافق قاضي القضاة على ذلك وترددت الرسل بينهما فخرج منكوتمر من ذلك وبعث إليه الأمير كرت الحاجب فلما دخل كرت وقف بعدما سلم فقام له القاضي نصف قومة ورد عليه السلام وأجلسه. وأخذ كرت يتلطف به في إثبات أخوة التاجر بشهادة منكوتمر فقال له قاضي القضاة: وماذا ينبني على شهادة منكوتمر قال له: يا سيدي ما هو عندكم عدل فقال: سبحان الله ثم أنشد: يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند وكرر ذلك ثلاث مرات ثم قال: والله متى لم تقم عندي بينة شرعية ثبتت عندي وإلا فلا حكمت له بشيء باسم الله. فقام كرت وهو يقول: والله هذا هو الإسلام وعاد إلى منكوتمر واعتذر إليه بأن هذا الأمر لابد فيه من اجتماعك بالقاضي إذا جاء إلى دار العدل.فلما كان يوم الخدمة ومر القاضي على دار النيابة بالقلعة ومنكوتمر جالس في الشباك تسارعت الحجاب واحدا بعد آخر إلى القاضي وهم يقولون: يا سيدي الأمير ولدك يختار الاجتماع بك لخدمتك. فلم يلتفت إلى أحد منهم فلما ألحوا عليه قال لهم: قولوا له ما وحبت طاعتك علي والتفت إلى من معه من القضاة وقال: أشهدكم أني عزلت نفسي باسم الله قولوا له يول غيري. وعاد إلى داره وأغلق بابه وبعث نقباءه إلى النواب في الحكم وعقاد الأنكحة يمنعهم من الحكم وعقد الأنكحة. فلما بلغ السلطان ذلك أنكر على منكوتمر وبعث إلى القاضي يعتذر إليه ويستدعيه فأبى واعتذر عن طلوعه فبعث إليه الشيخ نجم الدين حسين بن محمد بن عبود والطواشي مرشداً فما زالا به حتى صعدا به إلى القلعة. فقام إليه السلطان وتلقاه وعزم عليه أن يجلس في مرتبته فبسط منديله وكان خرقة كتان خلقة فوق الحرير فبل أن يجلس كراهة أن ينظر إليه ولم يجلس عليه. وما برح السلطان يتلطف به حتى قبل الولاية ثم قال له: يا سيدي هذا ولدك منكوتمر خاطرك معه ادعوا له وكان منكوتمر ممن حضر فنظر إليه قاضي القضاة ساعة وصار يفتح يده ويقبضها وهو يقول: منكوتمر لا يجيء منه شيء وكررها ثلاث مرات وقام. فأخذ السلطان الخرقة التي وضعها على المرتبة تبركا بها وتفرقها الأمراء قطعة قطعة ليدخروها عندهم رجاء وأما حمدان بن صلغاي فإنه قدم إلى دمشق وعرف الأمير جاغان ما ندب إليه من مسك الأمير بكتمر السلاح دار والأمير فارس الدين ألبكي نائب صفد وعز الدين طقطاي والأمير بزلار والأمير عزاز وكان الأمير قبجق نائب الشام قد خرج بالعساكر إلى مساعدة الأمراء على أخذ سيس ثم سار حمدان إلى حمص والتقي هناك بالأمير قبجق وهو عائد إلى دمشق فتلقاه وأكرمه. ثم توجه إلى حلب وأوقف النائب على ما جاء فيه من قبض الأمراء الذين عينهم منكوتمر فبلغهم ذلك فاحترزوا على أنفسهم ولحقوا بحمص يريدون الأمير قبجق والاتفاق معه. وفيها أفرج عن ابن الحلي بعد أن بالغ أقوش الرومي في عقوبته فاختفى. وفيها استقر الأمير بكتمر الحسامي أمير آخور كبيراً واستقر علاء الدين طيبرس الخازنداري نقيب الجيش عوضاً عن بلبان الفاخري. وفيها رسم بعمل استيمار يجمع أرباب الرواتب والرزق ليحضروا بتواقيعه للعرض على منكوتمر ويقطع من يختار منهم فلما شرعوا في الكتابة اشتد قلق الناس وبلغ السلطان ذلك فمنع منكوتمر منه. ومات في هذه السنة ممن له ذكر صدر الدين إبراهيم بن محيى الدين أحمد بن عقبة بن هبة الله بن عطاء البصراوي الدمشقي الفقيه الحنفي ولد في سنة تسع وستمائة وبرع في الفقه والنحو وأفتى ودرس وولي قضاء حلب وقدم بعد عزله إلى القاهرة وأقام بها ثم ولي حلب ثانياً فمات بدمشق في رمضان. ومات شهاب الدين أحمد بن عبد الرحمن بن عبد المنعم بن نعمة المقرئ الفقيه الحنبلي عابر الرؤيا كانت له عجائب في عبارة الرؤيا وصنف فيها ومات آخر ذي القعدة. ومات الأمير عز الدين أيبك الموصلي أحد المماليك المنصورية وقد تنقلت به الخدم حتى ولي نيابة طرابلس إلى أن مات في. ومات الأمير سيف الدين بلبان الفاخري نقيب الجيش في رابع عشر ربيع الآخر. ومات الأمير علم الدين سنجر طقصبا استشهد في محاصرة قلعة نجيمة في. ومات الأمير علم الدين سنجر أحد الأمراء الناصرية بدمشق في سابع عشري جمادى الأولى وكان شجاعا مقداما سمع الحديث وعرف بالخير وحدث. وتوفي شيخ الشيوخ بحلب نجم الدين أبو محمد عبد اللطيف بن أبي الفتوح نصر بن سعيد بن سعد بن محمد بن ناصر الميهني عن ثمان وثمانين سنة. ومات الأمير سعد الدين كوجبا نائب دار العدل في يوم الإثنين حادي عشر جمادى الأولى.ومات موفق الدين محمد بن الحسين بن ثعلب الأدفوي خطيب أدفو وله نظم ونثر وفيه كرم وعنده إغضاء وحلم ومات في. ومات جمال الدين محمد بن سالم بن نصر الله بن سالم بن واصل الحموي قاضي حماة وهو أحد الأئمة الأعلام قدم القاهرة ومات بحماة في ثاني عشري شوال عن ثلاث وتسعين سنة. ومات الشيخ شمس الدين أبو المعالي محمد بن بكر بن محمد الأيكي الفارسي الشافعي شيخ الخانكاه الصلاحية سعيد السعداء مات بدمشق في رابع رمضان عن ست وستين سنة. ومات الأمير شمس الدين سنفر التكريتي أستادار الملك السعيد. ومات الأمير علم الدين طرطج الصالحي وهو كاتب له مكارم وفيه غقدام وشجاعة وله أثار حميدة. ومات الأمير طقطاي الأشرفي أحد الأمراء والأكابر. و مات الأمير شمس الدين سنقر التكريتي عرف بالمساح وكان مشهوراً بالشجاعة يخرج كل سنة إلى عكا فتكون له وقائع مع أهلها وكان يركب بجانب المنصور قلاوون في المواكب وكان قلاوون يستشيره في المهمات وكان من دون أمراء مصر يركب بالزناري على فرسه. بمفرده وفيه مكارم.ومات الفقيه تقي الدين أبو العباس أحمد بن الفقيه علم الدين أبي عبد الله محمد بن رشيق يوم الخميس رابع عشري جمادى الآخرة. وتوفي الشيخ زين الدين أبو المحاسن يوسف بن محمد بن الحسن بن الحسن عدي بمصر وله تربة جليلة بالقرافة. في أول المحرم: قدم الخبر بأن التتر على عزم الحركة إلى الشام فخرجت العساكر ثم خرج الأمير أقش الأفرم. وتوجه حمدان بن صلغاي وعلاء الدين أيدغدي شقير على البريد لإخراج الأمير قبجق نائب الشام بالعسكر إلى حلب فوصلا إلى دمشق في سابعه فشرع قبجق في الاهتمام للسفر وخرج بعسكرها وبالبحرية في يوم الأربعاء رابع عشره وتأخر جاغان بدمشق. وعلم قبجق أن الأمر بخلاف ما أشيع من حركة التتار وإنما القصد عمل مكيدة به وبغيره من الأمراء فكان ذلك سببا لفراره إلى بلاد التتر. وملخص ذلك أن الأمير منكوتمر نائب السلطنة ثقلت عليه وطأة الأمراء بديار مصر والشام فأراد إزاحتهم عنه وإقامة غيرهم من مماليك السلطان ليتمكن من مراده فما زال بالسلطان حتى قبض على أمراء مصر ثم أخذ في التدبير على من ببلاد الشام من الأمراء فبعث أيدغدي شقير ثم أردفه بحمدان بن صلغاي وعلى يده ملطفات إلى بلبان الطاخي نائب حلب بالقبض على الأمير بكتمر السلاح دار وهو مجرد على حلب وعلى الأمير فارس الدين الألبكي الساقي نائب صفد والأمير عز الدين طقطاي والأمير سيف الدين بزلار والأمير سيف الدين عزاز ومن وقدم حمدان دمشق وأوقف الأمير جاغان شاد الدواوين على ما جاء فيه وأمره ألا يمكن قبجق نائب دمشق من الدخول إليها إلا بمرسوم. وخرج حمدان يريد حلب فصادف الأمير قبجق بالقرب من حمص واجتمع به فتخيل قبجق من قدومه وبعث إلى بكتمر السلاح دار وغيره من الأمراء يوصيهم بالاحتراز وبعث نجابا إلى أصحابه بمصر يستعلم منهم الخبر. فلما قدم حمدان حلب وأوقف الأمير بلبان الطباخي على أمره توقف فيه فأخذ حمدان وأيدغدي شقير يستحثانه على قبض الأمراء. فاتفق موت الأمير طقطاي واتهم حمدان بسقيه. فبعث حمدان وأيدغدي إلى منكوتمر بتوقف نائب حلب في مسك الأمراء فغضب من ذلك وأراد عزل بلبان عن حلب وتولية أيدغدي شقير عوضه فخوف من ذلك حتى كف منه. وكتب منكوتمر إلى الأمير بلبان الطباخي نائب حلب يستحثه في مسك الأمراء وكتب إلى الأمير بكتمر بنيابة طرابلس وكان ذلك خديعة من منكوتمر قصد بها أنه إذا حضر بكتمر بلبس الشريف يقبض عليه وعلى الأمراء وقدم الأمير الحسام الأستاداري إلى مصر فعزم منكوتمر على مسكه ثم انتظر ما يرد عن الأمراء بحلب. وبلغ بلبان الطباخي أن أيدغدي شقير قد عين لنيابه حلب وبلغ قبجق نائب الشام أن خروجه من دمشق إنما كان حيلة عليه وأن جاغان يستقر في نيابة دمشق عوضه فكتما كل منهما ذلك وأخذ الحسامية في الإلحاح على نائب حلب في قبض الأمراء عند حضورهم السماط يوم الموكب فبعث سراً إلى الأمراء يعلمهم ذلك فاستعدوا لأنفسهم وركبوا في يوم الموكب على العادة إلا الأمير بكتمر السلاح دار فإنه تأخر واعتذر بعارض فلم يمكن الحسامية القبض على من حضر خوفا من فوات الأمر فيمن تأخروا واتفقوا على أن ذلك يكون في موكب الآخر فبعث الطباخي نائب حلب يعرفهم ذلك فكتب بكتمر السلاح دار إلى قبجق نائب دمشق وقد بلغه خروجه إلى حمص يعرفه بما هم فيه فلما كان الموكب الثاني ركب الأمراء ليقرأ عليهم كتاب السلطان باستقرار الأمير بكتمر في نيابة طرابلس وقد احترزوا على أنفسهم وتأخر بكتمر أيضاً عن الركوب واعتذر بوجع فؤاده فعزموا على مسك من حضر ثم أخذ بكتمر من خيمته. وكانت العادة أنهم يقفون تحت القلعة على خيولهم فإذا قرىء الكتاب نزلوا وقبلوا الأرض فبيت الحسامية أن الأمراء إذا نزلوا لتقبيل الأرض داسوهم وأخذوهم باليد. فعندما قرئ الكتاب ترجل نائب حلب على العادة وتبعه بقية الأمراء وقد أوقفوا مماليكهم على خيولهم ليحموهم ونزل كل منهم وعنان فرسه في يده ومماليكه محيطة به وقبل الأرض ووثب سريعا على فرسه ومضوا يداً واحدة.فانخرم الأمر على الحسامية وأخذوا يلومون نائب حلب في كونه لم يقبض عليهم وهر يهول الأمر عليهم إلى أن اتفقوا على الإرسال إلى الأمراء ليجتمعوا بدار النيابة في الليل وأن يبدءوا بالإرسال إلى بكتمر أمير سلاح. فلما كان بعد عشاء الآخرة توجه الحاجب إلى أمير سلاح يعلمه بأن قصادا قد قدموا من البلاد فيحضر للمشهورة مع الأمراء فلم يمكن الحاجب من الاجتماع به واعتذر بوجع رجله فمضى الحاجب إلى الأمير كرتاي وابن قرمان وبلغهما الرسالة فضحكا وقال كل منهما: ما أبرد ذقن الأبعد وذقن من أرسله متى سمعت مشورة تكون ثلث الليل إلى غد نحضر مع الأمراء. ثم إن الأمير سيف الدين بكتمر السلاح دار والأمير فارس الدين ألبكي والأمير سيف الدين عزاز اجتمعوا وركبوا من ليلتهم يريدون حمص ولقاء الأمير قبجق فخرج قبجق إلى لقائهم واتفقوا على العبور إلى بلاد غازان فأمهلهم قبجق حتى يرد عليه جواب الأمراء من مصر فنزلوا معه. وقدم جواب قبجق من كرجي وطغجي أنهم عن قريب يقضون الشغل فليقم بموضعه حتى الخبر فلم يوافقه الأمراء على الإقامة خوفاً من مجيء العساكر إليهم وساروا ليلة الثلاثاء من ربيع الآخر وقصدوا سلمية. وكان الأمير قبجق لما قدم عليه الأمراء من حلب قد بعث على البريد الأمير سيف الدين بلغاق بن كونجك الخوارزمي إلى السلطان يعلمه حضور الأمراء إليه ويسأل الأمان لهم وتطييب خواطرهم. ثم سار الأمير قبجق من حمص ليلة السبت خامس ربيع الأول وبعث علاء الدين بن الجاكي إلى دمشق يستدعي من الأمير جاغان مالا وخلعا من الخزانة للنفقة على الأمراء وتطييب خواطرهم فامتنع جاغان من ذلك وكتب يلومه على إغفاله القبض عليهم وكتب إليه أيضاً أيدغدي شقير وسيف الدين كجكن بالإنكار وأنه إن لم يقبض عليهم ركبوا عليه وقبضوه فزاده ذلك نفوراً. وتبين لعسكر دمشق مخالفة قبجق فتسللوا عنه طائفة بعد طائفة وعادوا من حمص إلى دمشق فشكرهم جاغان على مفارقتهم إياه فبقي قبجق في قلة من المال والرجال. وأما أهل حلب فإن الأمراء لما شاروا في الليل ركب من بكرة النهار أيدغدي شقير وحمدان بن طغان والأمراء الحسامية إلى نائب حلب وبطقوا إلى الأعمال بالقبض على الأمراء وتوجه أيدغدي شقير في عسكر إلى جهة الفرات وسار عسكر إلى جهة حماة ونهبت أثقال الأمراء. فورد الخبر بوصولهم إلى قبجق نائب دمشق وأنهم ساروا على طريق سلمية فقام العزاء والنواح بحلب. وخرج العسكر في طلبهم نحو الفرات وأوقع جاغان الحوطة بدمشق على بيت قبجق في خامس عشره وتكامل مجيء العسكر الذي كان مع قبجق في سابع عشره. وانتهى سيف الدين كجكن وأيدغدي شقير إلى الفرات فوجدا الأمراء قد قطعوا الفرات إلى رأس عين فورد الخبر إلى حلب بقتل السلطان ونائبه منكوتمر فركب سيف الدين بلبان البريدي ولحق الأمير قبجق برأس عين وأعلمه بذلك فظن أنها حيلة عليه ولم يرجع. وأما السلطان فإن منكوتمر لم يزل يدبر بشؤم رأيه حتى قتل وذلك أن الأمير طغجي قدم من الحجاز أول صفر وقد قرر منكوتمر خروجه إلى نيابة طرابلس فلما استراح من تعب السفر استدعاه السلطان وتلطف به في الخروج إلى طرابلس فاعتذر بأنه لا يصلح للنيابة. وقام الأمير طغجي فأعلم كرجي وبيبرس الجاشنكير بذلك فاتفقوا على التحدث مع السلطان في صرفه عن تسفيره ودخلوا عليه وما زالوا به حتى أعفاه. فشق ذلك على منكوتمر وأنكر على كرجي وتجهم له وتكلم فيه وفي من تحدث معه في إعفاء طغجي من السفر وبالغ في إهانتهم فحرك ذلك من كرجي كوامن كانت في نفسه من منكوتمر. وانقطع منكوتمر من الخدمة حنقاً من إعفاء طغجي فداراه السلطان وبعث إليه قاضي القضاة حسام الدين الحسن بن أحمد بن الحسن الرومي ليحضره فما زال به حتى حضر بشريطة أن يخرج طغجي من مصر ويمسك كرجي أن يخرج أيضاً. واتفق مع ذلك وصول قاصد الأمير قبجق نائب دمشق في السر إلى طغجي وكرجي بما تقدم ذكره فأوقفوا بيبرس وسلار وغيره ممن يثقون به على ذلك واتفقوا على الفتك بالسلطان.وشرعوا في السعي بين الأمراء المماليك المنصورية والأشرفية يستميلونهم وأخذ كرجي يستميل المماليك أرباب النوب فإنه كان مقدما عليهم حتى أحكموا أمرهم. هذا ومنكوتمر مقيم على إخراج طغجي وبعث يأمره أن يتجهز للسفر وتمادى الحال إلى يوم الخميس عاشر ربيع الآخر. ففي ذلك اليوم: أصبح السلطان صائماً وأفطر ثم جلس يلعب بالشطرنج وعنده إمامه نجم الدين بن العسال وقاضي القضاة حسام الدين فدخل الأمير كرجي على عادته وأعلمه بأنه قد بيت البرجية وغيرهم من المماليك في أماكنهم وغلق عليهم الأبواب وكان قد رتب قبل دخوله جماعة في أماكن بالدهاليز فشكره السلطان وأثنى عليه وقال لقاضي القضاة: لولا الأمير سيف الدين كرجي ما وصلت إلى السلطة. فقبل كرجي الأرض وجلس على عادته ثم قام ليصلح الشمعة فأصلحها وألقى فوطة خدمة كانت بيده على نمجاه السلطان ليسترها عنه وكان سلاح دار النوبة تلك الليلة الأمير سيف الدين نغاي الكرموني السلاح دار قد وافق كرجي على ما هو فيه. ثم قال كرجي للسلطان: ما يصلي مولانا السلطان العشاء فقال: نعم وقام يريد الصلاة فأخذ السلاح دار النمجاه من تحت الفوطة وعند ذلك جرد كرجي سيفه وضرب السلطان على كتفه فالتفت السلطان يريد بالنمجاه فلم يجدها فقبض على كرجي وألقاه إلى الأرض فضرب نوغاي رجل السلطان بالمنجاه فقطع رجله. وانقلب السلطان على ظهره فأخذته السيوف من كل جانب حتى صار كوم لحم وفر ابن العسال إلى خزانة وصرخ القاضي حسام الدين: لا يحل هذا لكم فهم به كرجي ثم كفه الله عنه. وخرج كرجي وأغلق الباب على المقتول والقاضي فإذا بالأمير طغجي قد استعد وقعد في عدة من البرجية بداركاه القلعة ينتظر ما يكون من كرجي. فعندما رآه طغجي قال: قضيت الشغل قال: نعم وأعلمه الخبر. فوقع الصوت في القلعة بقتل السلطان وطار من وقته إلى المدينة. فركب الأمير جمال الدين قتال السبع في عدة من الأمراء إلى خارج المدينة ووقعت الصرخة تحت القلعة فركب أكثر العسكر. وأما طغجي فإنه استدعى بقية الأمراء المقيمين بالقلعة وبسط باب القلة. فلم يشعر منكوتمر وهو بدار النيابة إلا بالصرخة قد قامت وباب القله قد فتح والأمراء قد اجتمعت والشموع توقد والضجيج يزداد. ففطن منكوتمر بقتل السلطان وأغلق الأبواب وألبس مماليكه فصار في أربعمائة ضارب سيف وأزيد ولكن الله خذله فجاءه الحسام أستادار وعرفه من تحت الشباك بقتل السلطان وتلطف به حتى خرج إليه وسار معه إلى باب القلة فقبل يد طغجي. فقام إليه طغجي وأجلسه ثم أمر به أن يمضى إلى الجب فأخذ وأرخي فيه فقام إليه الأمير شمس الدين سنقر الأعسر والأمير عز الدين أيبك الحموي نائب الشام وغيرهما ممن كان بالجب ولما عاينوه أنكروا ذلك فقال منكوتمر: قد غضب على السلطان وحلف أن يحبسني وقصد بذلك دفعهم عنه لئلا يقتلوه. فلم يكن غير بعض ساعة إلا وقد أرخيت القفة من رأس الجب وصاحوا على منكوتمر فقام وجلس بها وفي ظن أهل الجب أن السلطان قد رضي عنه. فعندما صار برأس الجب وجد كرجي واقعاً في طائفة من المماليك فضربه كرجي بلت من حديد صرعه وذبحه عند الجب وانصرف وذلك أنه لما حضر منكوتمر إلى طغجي لم يكن كرجي حاضراً فلما بلغه مجيئه أقبل يريده فأعلم أنه في الجب فصاح على الأمراء فقال: إيش عمل بي السلطان حتى قتلته والله لقد أحسن إلي وكبرني وأنشأني ولو علمت أني إذا قتلت منكوتمر يبقيني بعده والله ما قتلته. وما أحوجني أقتله إلا ما كان يقع من منكوتمر ومضى مسرعاً إلى الجب حتى قتله ونهبت داره. وكان منكوتمر عفيفاً عن الأموال ضابطا لناموس المملكة متيقظاًً وهو أول من نزل عن إقطاعات الجند التي كانت في ديوان النيابة ومتحصلها في السنة مائة ألف أردب غلة فتركها لله تعالى. وكان بعيداً عن اللهو مهيباً مصمما لم يسمع منه قط أنه شتم أحدا ولا جرى على لسانه فحش مع كثرة التحري ورفع المظالم. إلا إنه كان صبي العقل عظيم الكبر محتقراً للأمراء فمقتوه وعلموا أنهم لا يصلون إلى ازاحته إلا بقتل السلطان فاجتمعوا على قتله حتى كان ما وكان الذين اتفقوا على قتل السلطان من الأمراء سيف الدين كرجي وسيف الدين نوغاي وقرا طرنطاي وحجك وأرسلان وأقوش وبيليك الرسولي. وكانت مدة سلطة لاجين منذ فارق الملك العادل كتبغا الدهليز بمنزلة العوجاء وحلف الأمراء في يوم الإثنين ثامن عشري المحرم سنة ست وتسعين وإلى أن قتل سنتين وشهرين وثلاثة عشر يوما ومنذ خلع كتبغا نفسه بدمشق واجتمعت الكلمة بمصر والشام على لاجين في يوم السبت رابع عشري صفر منها وإلى أن قتل سنتين وشهرين غير ثلاثة عشر يوما وقتل السلطان لاجين وله من العمر نحو الخمسين سنة وكان أشقر أزرق العين معرق الوجه طوالا مهيباً شجاعا مقداما عاقلا متديناً يحب العدل ويميل إلى الخير ويحب أهله جميل العشرة مع تقشف وقلة أذى. وأبطل عدة مكوس وقال: إن عشت لا تركت مشمسا ألبتة. وكان يحب مجالسة الفقهاء والعامة ويأكل طعامهم وكان أكولا. و لم يعب بشيء سوى انقياده إلى مملوكه ونائبه الأمير منكوتمر ورجوعه إلى رأيه وموافقته له واتباعه لكل ما يهواه من شدة حبه له حتى أدى ذلك إلى قتلهما ثم إلى خراب البلاد بمجيء غازان فإن قبجق ومن معه من الأمراء حملهم بغضهم في منكوتمر وخوفهم منه على اللحاق بغازان وتحريضه على المسير إلى الشام حتى كان منه ما يأتي ذكره إن شاء الله.وكان لاجين منذ قتل الملك الأشرف يستشعر أنه لابد أن يقتل حتى أنه في يوم الخميس الذي قتل في مسائه أحضر إليه بعد العصر بندب فارس ميداني من السلاح خاناه فجعل يفتل فردة بعد فردة وهو يقول: من قتل قتل ويكرر هذا مراراً فكان الفأل موكلا بالمنطق إذ قتل بعد أربع ساعات من كلامه. ونظير هذا أن الملك الأشرف وقف في حلقة صيد والنوبة يومئذ في حمل السلاح خلفه للاجين هذا فجاء لاجين إلى بدر الدين بكتوت العلائي وله أيضاً النوبة في حمل السلاح وقد تقدم إلى مكانه من الحلقة وأعطاه سلاح السلطان وأمره بالتوجه إلى السلطان فإنه أمر بذلك. فأخذ بكتوت السلاح وتوجه به إلى الخدمة ووقف لاجين حيث كان بكتوت واقفا. فلما جاء بكتوت وجد الأشرف على فرسه وقد جعل طرف عصاة مقرعته تحت جبهته واتكأ برأسه عليها وهي ثابتة بحذاء سرجه وكأنه في غيبة من شدة الفكر. ثم التفت الأشرف وقال: يا بكتوت والله لقد التفت فرأيت لاجين خلفي وهو يحمل السلاح والسيف في يده فتخيلت أنه يضربني به فنظرت إليه وقلت يا شقير أعط السلاح لبكتوت يحمله وقف أنت مكانه. فقال بكتوت: أعيذ مولانا السلطان بالله أن يخطر هذا بباله ولاجين أقل من هذا وأضعف نفساً أن يقع هذا بباله فضلا عن أن يقدم عليه. وهو مملوك السلطان ومملوك مولانا السلطان الشهيد وتربية بيته الشريف. فقال الأشرف: والله ما عرفتك إلا ما خطر لي وتصورته. قال بكتوت: فخشيت على لاجين كون السلطان تخيل هذا فيه وأردت نصحه فقلت له في تلك الليلة: بالله تجنب السلطان ولا تكثر حمل السلاح ولا تنفرد معه وأخبرته الخبر فضحك ضحكا كثيراً وتعجب. فقلت: والله هذا يبكي منه فقال: ما ضحكي إلا من إحساسه. والله لما نظر إلى وقال يا شقير كنت على عزم من تجريد سيفه وقتله به. قال بكتوت: فعجب من ذلك غاية العجب ومن العجب أيضاً أن الضرب الذي كان في الملك الأشرف عند قتله وجد مثله سواء في لاجين لما قتل. وكان لاجين في سلطنته كثيراً ما يقف إذا أراد أن يصلي ويكشف رأسه ويسأل أن يمد في عمره حتى يلقي غازان ثم يقول: لكن أنا خائف أن يدركني الأجل قبل لقائه فكان كذلك. وكان في شبابه منهمكا على الخمر حتى صار وهو بدمشق يعاقر أعيان أهلها وينعم في مجالس اللهو عليهم بحيث لما أفرط في اللهو قال الشجاعي للملك المنصور قلاوون إنه قد أبخس حرمة السلطان بمعاشرته عامة دمشق وانهماكه في الشرب. فبعث إليه قلاوون على لسان الأمير طرناي نائب السلطنة ينهاه ويهدده وكتب إليه أيضاً بذلك. وكان ألاجين كثير الحركة بحيث يغيب في الصيد الشهر والشهرين ومعه أرباب الملاهي فلما تسلطن أعرض عن اللهو وسار أحسن سيرة من العدل والإنصاف والعطاء والإنعام وأحبه الأمراء والأجناد والعامة فأفسد ذلك مملوكه منكوتمر بسوء تدبيره. واتفق أن لاجين لما اختفى هو وقرا سنقر بعد قتل الملك الأشرف رأى قرا سنقر رؤيا فبعث إلى لاجين ليحضر إليه بسببها وكان كل منهما يعرف موضع الآخر. فجاءه لاجين في صندوق حمل إلى دار قراسنقر بحارة بهاء الدين من القاهرة حيث كان مختفياً فتحادثا ثم قال له قرا سنقر: يا شقير رأيت رؤيا أنا خائف أن أقصها فتطمع نفسك وتتغير نيتك وتغدر بي فحلف له أنه لا يخونه. فقال قراسنقر: رأيت كأنك قد ركبت وبين يديك خيول معقودة الأذناب مضفورة المعارف مجللة بالرقاب الذهب على عادة ركوب الملوك ثم نزلت وجلست على منبر وأنت لابس خلعة الخلافة واستدعتني وأجلستني على ثالث درجة من المنبر وتحدثت معي قليلا. ثم دفعتني برجلك فسقطت من المنبر وانتبهت عند سقوطي. وهذا يدل على قربي منك ورميك لي وأنا والله يا شقير نحس قد خلفتك وما أدري هل تصدق أو لا فضحك لاجين. وكان كذلك فإنه استناب قراسنقر لما تسلطن قليلا ثم كان من أمره ما تقدم ذكره من سجنه له. فكان قراسنقر كل قليل يبعث إليه برسول وهو سجين ويقول: يا أخي اجعل في نظير بشارتي بما آتاك الله أن تفرج عني وتنفيني حيث أردت فيبتسم لاجين ويقول للرسول: سلم واتفق أن لاجين رأى في المنام كأنه بباب القلة من القلعة وقد جلس في موضع النائب والنائب قدامه وقف وشد وسطه فلما قام من مكانه صعد درجا وإذا برجل وهو كرجي وقد طعنه برمح فصار كوم رماد. فاستدعى لاجين علاء الدين ابن الأنصاري عابر الرؤيا وقص رؤياه عليه فقال: تدل هذه الرؤيا على أن السلطان يستشهد على يد كرجي. فقال لاجين: الله المستعان وأوصاه بكتمان ذلك وأعطاه خمسين دينارا وانصرف ابن الأنصاري فإذا قاصد الأمير منكوتمر ينتظره فلما دخل عليه سأله عن رويا السلطان فكتمها عنه وقال: شيء يتعلق بالحريم. فقال منكوتمر: قد رأيت أنا أيضاً كأني خرجت من الخدمة إلى دار النيابة فإذا بالدهليز عمود رخام فوقه قاعدة فجذبت سيفي وضربت رأس العمود فألقيته ففار من العمود دم عظيم ملأ الدهليز. فعمى ابن الأنصاري عليه وقال: قد انقطع الكلام برؤية الدم خوفاً من شره وانصرف متعجباً من اتفاق تأويل المنامين فلما كان بعد أحد عشر يوماً من رؤياهما حضر إليه خادم بورقة فيها أن امرأة السلطان وهي ابنة الملك الظاهر رأت السلطان جالساً وإذا بطائر كالعقاب انقض عليه واختطف فخذه الأيسر وطار إلى أعلى الدار فإذا غراب قد أشرف على الدار وصاح كرجي ثلاث مرات. فقال ابن النصاري: هذا منام لا يفسر حتى تمضى ثلاث جمع وأراد بذلك الدفع عن نفسه فقتل لاجين في الجمعة الثانية من هذا المنام وبعث الأمير علم الدين سنجر الدواداري وراء ابن الأنصاري واستحكاه عن تأويل رؤيا لاجين فإنه كان حاضراً عندما قصها عليه ثم قام حتى لا يسمع تأويله. فأخبره ابن الأنصاري بما قاله له وبمنامي منكوتمر وامرأة لاجين. فقال له الأمير علم الدين: لما قمت من عند السلطان لاجين استدعاني وأخبرني بما قال لك وقال عرفت من الذي طعنني بالرمح قلت لا فأشار إلى كرجي. ثم استدعاني بعد أيام وذكر لي أنه أعلم منكوتمر بأن خاطره ينفر من كرجي فقال له منكوتمر بحنق: والله لا تبرح تتهاون في أمرك حتى يقتلوك ويقتلوني وتموت مماليكك في الحبس وما لهذا القواد إلا قتله يعني كرجي وحلف أنه كلما رأي كرجي يود لو ضربه بسيفه ونهض وهو مصمم على قتله فحال الله بينهما وبين كرجي حتى أمضى فيهما على يده ما قدره من قتلهما. وذلك أن الاتفاق كان قد وقع بين السلطان وبين منكوتمر على مسك كرجي وطغجي وشاورشي في جماعة من الأمراء وقت الخدمة يوم الإثنين فعرف منكوتمر ثقاته بذلك. واشتد فكر السلطان واضطراب رأيه فيما قرره مع منكوتمر فتارة يعزم على إمضائه وتارة يرجع عنه حتى يرد عليه خبر الأمراء المجردين وهل قبض عليهم أو لا. فلما أصبح استدعى الأمير سيف الدين سلار أمير مجلس وبعثه إلى منكوتمر يأمره ألا يفعل شيئاً مما قرره مع السلطان حتى يعرفه فإنه خطر في نفسه شيء أوجب تأخيره فلما ذكر سلار هذا لمنكوتمر ظن أن السلطان أعلمه بالأمر على وجهه وأخذ ينكر على السلطان تأخيره ما اتفقا عليه وشرح له الحال كله ولم يكتمه شيئاً فسكن سلار من حنقه وأعاد الجواب على السلطان بالسمع والطاعة وكتم ما أطلعه منكوتمر عليه ومضى إلى كرجي وطغجي ومن معهما وأعلمهم بالأمر كله فشمروا للحرب وكان ما كان. واتفق أيضاً أن في الليلة التي قتل فيها لاجين ظهر في السماء نجم له ذنب يخيل لمن رآه أنه قد وصل إلى الأرض. فلما رآه لاجين تعجب منه وتمعر وجهه وقال لقاضي القضاة حسام الدين وهو معه: ترى ما يدل عليه هذا النجم فقال: ما يكون إلا خير. فسكت لاجين ثم قال له: يا قاضي حديث كل قاتل مقتول صحيح وتغير تغيراً زائداً. فشرع الحسام يبسطه ويطيب خاطره وهو يقول: " إنا لله وإنا إليه راجعون " وجلس وكررها فقتل في مجلسه ذلك. واتفق أيضاً أنه أحضر إليه في تلك الليلة بعض السلاح دارية سيفا من الخزانة فقلبه وأعجب به فأخذ كرجي يشكر منه فقال له لاجين: كأنك تريده قال: نعم والله يا خوند فقال لاحين: هذا ما يصلح لك والتفت إلى طغاي وناوله إياه وقال: خذ هذا اقتل به عدوك فكان أول ما ضرب به لاحين بعد ساعة فأطار يده.واتفق أيضاً أن لاجين دفن في تربة بجانب تربة العادل كتبغا من القرافة فكان أولاد كتبغا يأتون قبره ويضربونه بالنعال ويسبونه وأقاموا على هذا مدة يشفون أنفسهم بذلك. وكان لاجين معظما للشرع وأهله منفذاً لأوامره ومن ذلك أنه طلب أموال الأيتام من الأمراء وكانت تحت أيديهم ونقلها إلى مودع حديد لمال الأيتام استجده وكتب توقيعا بأن من مات وله ورثة صغار ينقل ميراثهم إلى مودع الحكم ويتحدث فيه قاضي القضاة الشافعي فإن كان للميت وصي فيقيم القاضي الشافعي معه عدولا من جهته ورد لاجين عدة أملاك كانت قد أخذت بغير حق إلى ملاكها منها قرية ضمير من عمل دمشق وكانت وقف الملك الزاهر على أولاده. ورد على عز الدين بن القلانسي ما أخذ منه في الأيام المنصورية قلاوون من المال بغير طريق شرعي. ووضع عن أهل بلقس الأشراف ما كان عليهم من المظالم وهو يبلغ ثلاثين ألف درهم في كل سنة وعوض مقطعيه بدل ذلك. ورد وقف قراقوش على الفقراء وكان قد أقطع منذ سنين فتسلمه القاضي الشافعي وبلغه في السنة عشرة آلاف درهم وعوض مقطعيه عنه ورد الدار القطبية إلى من وقفت عليه من جهة الملك الكامل وكانت بيد أحد مقدمي الحلقة وورثته من نحو ستين سنة. وكانت عدة من الإقطاعات بيد الأمراء فردها إلى أربابها وكانت العساكر من ذلك في مضرة لأنهم لا يحصل لهم من دواوين الأمراء كبير شيء ويبقي الإقطاع في حمي وكان لاجين شجاعا مقدما على أقرانه في الفروسية وأعمالها كثير الوفاء لمعارفه وخدامه ومنع من لبس الكلفتاه الزركش والطرزكش وملابس الذهب وشدد في المنع من المحرمات كلها وحد في الخمر بعض أولاد الأمراء وكان يصوم رجب وشعبان ويقوم الليل ويكثر من الصدقات مع لين الجانب وخفض الجناح. تدبير الأمراء بعد قتل الملك المنصور لاجين الأمر ولما قتل الملك المنصور لاجين ونائبه الأمير منكوتمر اتفق من كان بالقلعة من الأمراء وهم عز الدين أيبك الخازندار المنصوري وركن الدين بيبرس الجاشنكير وسيف الدين سلار الأستادار وحسام الدين لاجين الرومي الأستادار الواصل من حلب وجمال الدين أقوش الأفرم وبدر الدين عبد الله السلاح دار والأمير كرت الحاجب مع الأمير طغجى وكرجي على مكاتبة الملك الناصر محمد بن قلاوون واحضاره من الكرك واقامته في السلطنة وأن يكون طغجى نائب السلطنة وألا يقع أمر من الأمور إلا بموافقة الأمراء عليه وتحالفوا على ذلك في ليلة الجمعة. فلما طلع النهار فتح باب القلعة وركب الأمير جمال الدين أقوشق قتال السبع وبقية الأمراء إلي القلعة وكتبوا إلى الأمير قبجق نائب الشام والأمير بلبان الطباخي نائب حلب. مما وقع وطلبوا منهما القبض على أيدغدي شقير و جاغان و حمدان بن صلغاي والأمراء الحسامية. وسار البريد بذلك على يد الأمير بلغاق من أمراء دمشق وكان قد حضر بكتاب الأمير قبجق في يوم السبت ثاني عشره بعد قتل لاحين فأخذ طغجى منه الكتاب. وجلس طغجى مكان النيابة وبقية الأمراء يمنة ويسرة ومد السماط السلطاني على العادة. ودار الكلام في الإرسال إلي الملك الناصر فقام كرجي وقال: يا أمراء أنا الذي قتلت السلطان لاجين وأخذت ثأر أستاذي والملك الناصر صغير ما يصلح ولا يكون السلطان إلا هذا وأشار لطغجى وأنا أكون نائبه ومن خالف فدونه فسكت الأمراء كلهم إلا كرت الحاجب فإنه قال: يا خوند الذي فعلته أنت قد علمه الأمراء ومهما رسمت ما ثم من يخالف وانفضوا وتأخر الإرسال إلي الملك الناصر. فبعث طغجي إلي التاج عبد الرحمن الطويل مستوفي الدولة وسأله عن إقطاع النيابة فذكره له فقال طغجي: هذا كثير أنا لا أعطيه لنائب ورسم أن توفر منه جملة تستقر للخاص. فلما خرج التاج عبد الرحمن الطويل من عنده استدعاه كرجي وسأله عن إقطاع النيابة فلما ذكره له استقله وقال: هذا ما يكفيني ولا أرضي به وعين بلادا يطلبها زيادة على إقطاع منكوتمر فأخذ وفي ليلة الأحد: وقع الطائر بنزول الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح بيلبيس بالعسكر المجرد إلى سيس فسر الأمراء بذلك وكتبوا إليه وإلى من معه بجميع ما وقع واتفاق طغجي وكرجي مفصلا. وصار أهل الدولة قسمين: الأمراء ورأيهم معدوق. مما يشير به الأمير بكتاش إذا حضر وأما طغجي وكرجي وشاورشي والمماليك الأشرفية فإنهم يد واحدة على سلطنة طغجى ونيابة كرجي وإنهم لا ينزلون إلي لقاء الأمير بكتاش بل يقيمون مع طغجي بالقلعة حتى يحضر بكتاش. ممن معه وكان رأي الأمراء النزول إلى لقائهم. فلما كان يوم الأحد ثالث عشره: نزل الأمير بكتاش بركة الحاج وشرع الأمراء بالقلعة في التجهيز إلي لقائه. فامتنع كرجي من أن ينزل إليه أحد بل أشار أن ينزل كل أحد إلي بيته ويطلع الجميع من الغد القلعة فيلبس طغجي خلعة السلطنة وانفضوا على ذلك. فعلم الأمراء إنهم ما لم ينزلوا إلى لقاء الأمير بكتاش فاتهم ما دبروه فلما اجتمعوا بعد العصر اخذوا مع طغجى وكرجي في تحسين النزول للقاء فإن الأميربكتاش قديم هجرة وأتابك العساكر وقد أثر في سبيل الله أثاراً جميلة وملك إحدى عشرة قلعة وله غائب بالعسكر نحو سنة ونصف فإن لم يتلقهم الأمراء صعب عليهم ولو كان السلطان حياً لخرج إلي لقائهم. هذا وطغجى وكرجي يقولان: لا نزول وأما أنتم فانزلوا إن اخترتم فلما طال تحاورهم استحيا طغحى من الأمراء وقال لكرجي: الصواب فيما قاله الأمراء والرأي أن أركب معهم ومعي مماليك السلطان ونلقي الأمير بكتاش وتقيم أنت بالقلعة في طائفة من المماليك فاتفقوا على ذلك. وعرض طغحى المماليك ومعه كرجي وعينا أربعمائة تركيب مع طغجى وأخرجت لهم الخيول من الإسطبل وأن يقيم مع كرجي بقيتهم بالقلعة وباتوا على ذلك. وأما دمشق فان بلغاق قدم إليها يوم السبت تاسع عشره وقد بلغه تسحب الأمير قبجق. بمن معه إلي جهة الفرات فاخفي أمره وتوجه إلي حلب وأوقف الأمير بلبان الطاخبي على الخبر فقبض الأمير بلبان من وقته على حمدان صلغاي وسجنه بالقلعة وبعث البريد في طلب قبجق ومن معه وكتب يعرفه بقتل لاجين ومنكوتمر. فصدف البريدي أيدغدي شقير وكجكن وبالوج في الطائفة الحسامية وقد خرجوا في طلب قبجق ومن معه فأنكروا أمره وفتشوه فإذا في الكتب التي معه شرح ما وقع بمصر فخاف أيدغدي شقير من نائب حلب لسوء ما عامله به ودفع الكتب إلي البريدي وخلاه لسبيله فمضى إلي قبجق وتحير أيدغدي في أمره ثم قوي عليه كجكن حتى سار به إلي حلب فلم يتعرض إليه الأمير بلبان النائب بل عزاه وتوجع له. وقام بدمشق الأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصوري وقبض على الأمير سيف الدين جاغان الحسامي الشاد وعلى الأمير حسام الدين لاجين الحسامي وإلي البر وقدم الأمير كجكن من حلب فقبفر عليه أيضاً وسلمهم جميعًا لأرجواش نائب القلعة. وتحدث الأمير بهاء الدين قرا أرسلان المنصوري حديث نواب السلطة وصار يركب بالعصائب والجاويش ويجلس بدار السعادة وترفع له القصص على هيئة النواب أوقع الحوطة على أبواب الأمراء المقتولين وحواصلهم وحلف العسكر للملك الناصر. فلم تطل مدته ومات في ثاني جمادى الأولى بقولنج وصارت دمشق بغير نائب ولا مشد ولا محتسب. وكان خبر قيام قرا أرسلان قد ورد إلي الأمراء بمصر فخرج البريد في سادس عشرى ربيع الآخر باستقرار سيف الدين قطوبك المنصوري في الشد عوضاً عن جاغان فعاشر ذلك يوم الأحد خامس جمادى الأولى عند قدوم البريد إلي دمشق. وأما قبجق نائب دمشق فإنه توجه ومعه الأمير بكتمر السلاح دار وفارس الدين ألبكي وسيف الدين عزاز وسيف الدين بزلار يريدون غازان فمات بزلار قريباً من سنجار. وتسامع بهم المغل فركب جنكلي بن البابا أمير ديار بكر من قبل غازان وبالغ في إكرامهم وتلقاهم صاحب ماردين وقام بأمرهم. فلحقه بريد نائب حلب بها وأوقفه على الكتب المتضمنة لقتل لاجين ومنكوتمر فبكى قبجق والأمراء نادماً على سرعة مفارقتهم بلاد الشام و لم يعجبهم العود فكتبوا الجواب بالاعتذار.وكان غازان فد بلغه مجيئهم إليه فبعث أميراً يتلقاهم وسار بهم إلى الأردوا فركب غازان في موكبه وتلقاهم وأكرمهم وضرب لهم الخركاوات وأمر لهم. مما يصلح لهم. ثم استدعاهم وباسطهم فلما انصرفوا حمل إلي قبجق عشرة آلاف دينار ولبكتمر مثلها ولعزاز والألبكي ستة آلاف دينار لكل منهما. وأنعم غازان عليهم وعلى من معهم بالخيول وغيرها وتقدم إلي أمرائه بأن يعمل كل منهم لهم ضيافة فأقامت الأفراح في الأردوا بسبب ضيافتهم عدة أيام وصار قبجق قي غاية المسمرة فإنه أتاه طائفة من أهله وأقاربه وأما بكتمر فإنه لم تطب نفسه بالإقامة. ومن غريب الاتفاق أن السلطان الملك المنصور قلاوون جري مرة عنده أمر تجريد عسكر إلي حلب فذكر له قبجق هذا أن بجرد فقال: أعوذ بالله أن أجرد قبجق إلي نحو الشام فإنني ما أمنه أن يدخل البلاد ويظهر لي من وجهه الميل إلي المغل. ثم التفت قلاوون إلى سنقر المساح وقال: إن عشت يا أمير وخرج قبجق إلي الشام فستذكر قولي لك فكان كذلك. ويقال إنه كان مدة نيابته لدمشق يكاتب غازان وعندما عزم على اللحاق به استدعى منه طمغا البريد التي يركب بها الأمراء عندهم فبعثها غازان إليه وصارت عنده حتى ركب من ماردين فحملها إليه وكان هو أكبر أسباب قدوم غازان إلي دمشق كما يأتي ذكره إن شاء سلطنة الملك الناصر محمد بن قلاوون ثانيًا وكان من خبر ذلك أن الأمير سيف الدين الحاج آل ملك الجوكندار والأمير علم الدين سنجر الجاولي قدما إلى الكرك فوجد الملك الناصر يتصيد بالغور فوجها إليه. ودخل الأمير جمال الدين أقوش الأفرم نائب الكرك إلي أم السلطان ليبشرها فخافت أن تكون مكيدة من لاجين وتوقفت في المسير وابنها إلي مصر فما زال بها حتى أجابت. ووصل الأميران إلي الملك الناصر فقبلا الأرض بين يديه وأعلماه الخبر فأتي إلي المدينة وأخذ في تجهيز أحواله والبريد يتواتر من مصر باستحثاثه على القدوم إليها إلى أن هيا له نائب الكرك ما يليق به وسار به إلي القاهرة فخرج الأمراء والعساكر إلي لقائه وكادت القاهرة ومصر ألا يتأخر بها أحد من الناس فرحا بقدومه وخرجوا إليه عامة مي يوم السبت رابع جمادى الأولى. وجلس السلطان الملك الناصر على سرير الملك في يوم الإثنين سادسه وجددت له البيعة وكتب شرف الدين محمد بن فتح الدين القيسراني عهده عن الخليفة الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد.وفيه استقر الأمير سيف الدين سلار في نيابة السلطة بديار مصر والأمير ركن الدين بيبرس الجاشنكير أستادار والأمير جمال الدين أقوش الأفرم الداوداري المنصوري نائب دمشق عوضاً عن الأمير قبجق المنصوري والأمير سيف الدين كرت الحاجب في نيابة طرابلس واستقر عوضه حاجبًا سيف الدين قطلوبك وأفرج عن الأمير قرا سنقر والأمير عز الدين أيبك الحموي والوزير شمس الدين سنقر الأعسر واستقر قرا سنقر في نيابة قلعة الصبيبة وخلع على سائر أهل الدولة وكتب إلي الأعمال بذلك ودقت البشائر وزينت الممالك على العادة. وفي ثامنه: ركب السلطان بخلعة الخلافة والتقليد بين يديه وعمره أربع عشرة سنة وأقر الوزير فخر الدين عمر بن الخليلي في الوزارة. وسار الأمير أقش الأفرم على البريد إلي دمشق فقدمها في ثاني عشريه ولبس من الغد التشريف وقبل عتبة باب القلعة على العادة ومد السماط بدار السعادة وأخرج الأمير سيف الدين قطلوبك إلي مصر. وفي تاسع عشريه: افرج الأمير أقش الفرم عن جاغان الحسامي وبعثه على البريد إلي مصر فرده السلطان من طريقه وجعله أحد أمراء دمشق. وقدم البريد من حلببدخول قبجق ومن معه إلي بلاد المغل. ووقع بالقاهرة مطر وسال المقطم إلي القرافة فافسد عدة ترب ووصل الماء إلي باب النصر من القاهرة وأفسد السيل هناك عدة ترب أيضاً.وصار الأمراء يجتمعون بقلعة الجبل في يوم الموكب عند السلطان ويقررون الأمور مع بيبرس وسلار فتصدر الأحوال عنهما وشرعا في تقديم حواشيهما وألزامهما. واستقر الأمير سيف الدين بكتمر أمير جاندار وأنعم على أمير موسى بن الصالح على ابن قلاوون بإمرة وعلى كل من عز الدين أيدمر الخطيري وبدر الدين بكتوت الفتاح وعلم الدين سنجر الجاولي وسيف الدين تمر وعز الدين أيدمر النقيب بإمرة. وأنعم على ناصر الدين محمد بن الشيخي وإلى القاهرة بإمرة واستقر واليًا بالجيزة وأعمالها مع ولاية القاهرة وأنعم على كل من لاجين أخي سلار وأقطاي الجمدار وبكتوت القرماني بإمرة وقبض على الأمير العمري والأقوش وقراقوش الظاهري ومحمد شاه الأعرج وعد على قراقوش ومحمد شاه من الذنوب قتلهما طغجى وكرجي. وإلي يوم الخميس خامس عشر جمادى الآخرة: ألبس الأمير أقش الأفرم نائب دمشق الأمراء والأعيان الخلع وفيه قدم طلبه وأثقاله من مصر فتلقاها والأمراء في خدمته وعليه التشاريف ودخل دخولاً حسنًا. وفيه كتب عن السلطان تقليد الملك المظفر تقي الدين محمود بنيابة حماة. وفي شهر رجب: توجه الأمير كرت الحاجب إلي نيابة طرابلس.وفي ثاني عشره: قبض بدمشق على الأمير سيف الدين كجكن واعتقل بالقلعة وورد البريد من حلب بمحاربة نغاي وطقطاي وإنه قتل بينهما من المغل خلق كثير وأن غازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو بن طولو بن جنكزخان قتل وزيره نوروز وأنه تأهب لعبور الشام وبعث في جمع المغل وإنه بعث سلامش بن أفال بن بيجو التتري إلى بلاد الروم على عسكر يبلغ نحو الخمسة وعشرين ألف فارس. فاهتم الأمراء بتجريد العسكر واتفقوا على تجهيز الأمير سيف الدين بلبان الحبيشي والأمير جمال الدين عبد الله السلاح دار والأمير مبارز الدين سوارالرومى أمير شكار ومقدمهم الأمير جمال الدين أقش قتال السبع وصحبتهم من أمراء الطبلخاناه عشرون أميراً. وكتب إلى دمشق بتجريد أربعة أمراء مقدمين فساروا وقدموها في سابع رجب. وقدم البريد من دمشق بورود نحو ثلاثين بطسة في البحر إلى ساحل بيروت في كل بطسة منها نحو سبعمائة وقصدوا أن يطلعوا من مراكبهم إلى البر وتحصل إغارتهم على الساحل. فاجتمع الناس لقتالهم فبعث الله ريحًا كسرت المراكب وألقتها بالشاطئ فأخذ أهل بيروت منها ما بقى من الغرق وأسروا ثمانين إفرنجياً وذلك أخريات شعبان. وقويت شوكة البرجية بديار مصر وصارت لهم الحمايات الكبيرة وتردد الناس إليهم في الأشغال. وقام بأمرهم الأمير بيبرس الجاشنكير وأمر منهم عدة وصار في قبالته الأمير سيف الدين الدين سلار ومعه الصالحية والمنصورية إلا أن البرجية أكثر وأقوى وشرهوا جميعاً إلى أخذ الإقطاعات ووقع الحسد بين الطائفتين وصار بيبرس إذا أمر أحداً من البرجية وقفت أصحاب سلار وطلبت منه أن يؤمر منهم واحداً. وأخذ الأمير سيف الدين برلغي يشارك بيبرس وسلار في الأمر والنهي وقويت شوكته والتف عليه المماليك الأشرفية. وفي يوم الخميس ثاني عشر شعبان: وصل سلامش بن أفال نائب الروم إلى دمشق مع الأمير عز الدين الزردكاش نائب بهسنا في عشرين من أصحابه. فتلقاه عسكر دمشق وأهلها مع النائب وقد اهتم للقائه وبالغ في التجمل الزائد فكان يوما بهجاً. وأنزله على الميدان وقام. مما يليق به وأحضر في ليلة النصف ليرى الوقيد بجامع بنى أمية. وفي ليلة الإثنين سادس عشره: أركبه البريد هو وأخوه قطقطوا فقدما إلى قلعة الجبل ومعهما مخلص الدين الرومي فأكرمهم الأمراء وقاموا بواجبهم. وكان من خبر سلامش أن غازان لما بعثه لأخذ بلاد الروم خرج عن طاعته وحسن في رأيه الاستبداد. بملك الروم فاستخدم عشرة آلاف وكاتب ابن فرمان أصر التركمان وكتب إلى الملك المنصور لاجين سلطان مصر يطلب نجدة على قتال غازان على يد مخلص الدين الرومي. فأجيب في شهر رحب بالشكر والثناء وكتب إلى دمشق بخروج العسكر لنصرته.وكان غازان قد وصل إلى بغداد فبلغه خروج سلامش عن طاعته فأعرض عن المسير إلى الشام وجهز العساكر إلى بلاد الروم وأخرجهم أول جمادى الآخرة وعدتهم نحو الخمسة وثلاثين ألفاً وعليهم بولاي وعاد غازان إلى تبريز ومعه الأمير قبجق وبكتمر السلاح دار والألبكي وبزلار وسار بولاي إلى سنجار ونزل على رأس عين ثم توجه إلى أمد. وجمع سلامش نحو الستين ألفًا وامتنع عليه أهل سيواس وهو يحاصرهم فلما قرب منه بولاي بعساكر غازان فر عنه من كان معه من التتار إلى بولاي في أول ليلة من رجب ثم التحق به أيضاً عسكر الروم وفر التركمان إلى الجبال. و لم يبق مع سلامش إلا نحو الخمسمائة فإنهزم عن سيواس إلى جهة سيس ووصل بهسنا آخر رجب. فورد خبره إلى دمشق في خامس شعبان والأمراء بها على عزم الخروج لنجدته فتوقفت الحركة عن تسيير العساكر. فما كان بعض أيام إلا وسلامش قد وصل إلى دمشق فخرج إليه عساكر دمشق والتقوه في موكب عظيم ووصل صحبته من بهسنا الأمير بدر الدين الزردكاش نائب السلطنة بها. ثم توجه سلامش وأخوه قطقطوا إلى الأبواب السلطانية في يوم الأحد خامس عشر شعبان على خيل البريد فلما قدم إلى قلعة الجبل أنعم على أخيه قطقطوا بإقطاع ورتب لمخلص الدين الرومي جار وخير سلامش بين المقام بالديار المصرية أو الشام أو أن يعود إلى بلاده فسال أن يجرد معه جيش ليعود إلى بلاده ويحضر بعياله ويرجع إلى خدمه السلطان. فوافقه السلطان على ذلك فركب البريد إلى حلب ورسم أن يخرج معه الأمير بكتمر الجلمي. فقدم سلامش دمشق في حادي عشر رمضان وخرج من الغد ومعه الأمير بدر الدين الزردكاش ولما وصل إلى حلب جرد معه الأمير بكتمر حسب المرسوم إلى جهة سيس بعدما مر بحلب وخرج منها بعسكر. ففطن به التتار فقاتلوه فقتل الأمير بكتمر وفر سلامش إلى بعض القلاع فقبض عليه وحمل إلى غازان فقتله. وكان سلامش هذا من أكبر الأسباب في حركة غازان إلى بلاد الشام: وذلك إنه نهب بعسكر حلب ماردين في شهر رمضان حتى أخذ ما كان بجامعها وفعل أفعالاً قبيحة فحرك فعله ما عند غازان وجعله حجة لمسيره. وفي شعبان: انعم على الأمير قرا سنقر بنيابة الصبيبة وبانياس فسار إليهما وتسلمهما فيه. وفي رمضان: قدم الأمير علاء الدين كجكن إلى القاهرة مقيداً هو وحمدان بن صلغاي وقد وكل بهما مائة فارس من عسكر الشام. فأرسل بحمدان إلى صفد فكان آخر العهد به. وقدمت رسل صاحب سيس و صاحب القسطنطينية بهدايا في سادسه. واستقر الأمير شمس الدين سنقر الأعسر في الوزارة عوضاً عن الصاحب فخر الدين عمر بن الخليلي فضرب التاج بن سعيد الدولة بالمقارع فأسلم وكان مستوفيا. واستقر شمس الدين أحمد السروجي في قضاء القضاة الحنفية بالقاهرة ومصر عوضاً عن حسام الدين حسن بن أحمد بن الحسن الرومي في أول ذي الحجة. ونقل الحسام إلى قضاء الحنفية بدمشق عوضاً عن والده جلال الدين أحمد بن الحسن. وفي آخر ذي القعدة: نقل الأمير قرا سنقر من نيابة الصبيبة إلى نيابة حماة بعد وفاة الملك المظفر تقي الدين. واستناب الأمير بيبرس الجاشنكير في الأستادارية الأمير علم الدين سنجر الجاولي وحكمه في سائر أمورها فترك الملك الناصر الاستدعاء لما يريده من مأكل أو مشرب لشدة الحجر عليه وصار ليس له من المملكة سوى الاسم. وذلك إنهم يجلسونه في يومي الخميس والإثنين وتحضر الأمراء الأكابر ويقف الأمير سلار النائب والأمير بيبرس الأستادار ويعرض سلار عليه ما يريده ثم يشاور فيه الأمراء ويقول: السلطان قد رسم بكذا فيمضى ذلك. ثم يخرج الجمع فيجلس سلار وبيبرس ويتصرفان في سائر أمور المملكة ويتفقان على قلة مصروف السلطان. وقدم البريد بتحرك غازان وجمعه على السير إلى الشام فكتب إلى الأمير كزناي والأمير قطلوبك الحاجب بالخروج واللحاق بالأمراء المجردين فقدموا دمشق في رابع عشرى ذي الحجة. ووقع العزم على سفر السلطان والأمراء واستدعيت الجند من بلاد مصر وألزم الوزير سنقر الأعسر بتجهيز الأموال فتحسن سعر الخيل والجمال والسلاح وآلات السفر. وانتظر العسكر النفقة فيهم فاجتمع الأمراء لذلك فلم يوافق بيبرس وسلار على النفقة خوفا من تلاف المال وقصدا تأخيرها إلى غزة فلم ترض بقية الأمراء بذلك وانفضوا على غير رضى. وخرج السلطان في رابع عشرى ذي الحجة بالعساكر ونزل خارج القاهرة واستناب في غيتبه الأمير ركن الدين بيبرس المنصوري الدوادار. ووقع في هذه السنة بأرض مصر آفة عظيمة من الفار. ومات في هذه السنة ممن له ذكر الأمير عز الدين أيبك الموصلي نائب طرابلس في صفر. ومات نجم الدين أيوب ابن الملك الأفضل نور الدين على ابن السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب في رابع عشر ذي الحجة بدمشق. ومات الأمير جمال الدين أقش المغيثي نائب البيرة بها. وقد أقام في نيابتها أربعين سنة ومات الأمير سيف الدين بكتمر الجلمي قتل على سيس.ومات الأمير بدر الدين بدر الصوافي أحد أمراء الدوادار. أصله من الغرب فولاه المنصور لاجين دوادارا وأقامه على تجديد عمارة جامع ابن طولون. واتفق أن شرف الدين عبد الوهاب بن فضل الله كاتب السر مرض فبعث إليه السلطان بدر الدين وقال: ما بقى يجيء منه شىء فبعد أسبوع مات بدر الدين وطلع كاتب السر إلى الخدمة وقد عوفي وعزى السلطان في الدوادار فقال السلطان: لا اله إلا الله كان في ظن الدوادار إنه يعزينا في كاتب السر عزانا كاتب السر فيه. ومات الأمير سيف الدين تمر بغا وله مسجد بالقرب من الميدان التحتاني بين القاهرة ومصر وكان كريما. وكان قد توجه مع الملك الناصر إلى الكرك ثم نقل إلى طرابلس فمات بها. ومات بحلب من المجردين الأمير سيف الدين البسطي وأحمد شاه ومحمد بن سنقر الأقرع وعين الغزال وكيكلدى بن السرية ومات بناحية سمنود - وكان قد توجه إليها - الأمير سيف الدين طقطاي. ومات شهاب الدين يوسف بن الصاحب محي الدين محمد بن يعقوب بن إبراهيم ابن هبة الله سالم بن طارق النحاس بن الأسدي الحلبي في ثالث عشر ذي الحجة بدمشق وقد قدم القاهرة مراراً.ومات أمين الدين سالم بن محمد بن سالم بن الحسن بن هبة الله بن محفوظ بن صصري التغلبي ناظر الدواوين بدمشق في ثامن عشرى ذي الحجة وهو مصروف. ومات الأمير علم الدين سنجر المسروري والي القاهرة وهو المعروف بالخياط. أهلت والسلطان متوجه بعساكر مصر إلى الشام والإرجاف يقوى بمسير غازان إلى الشام. فرحل السلطان بالعساكر من الريدانية أول يوم من المحرم والأمراء قد كثر تحاسدهم وتنافسوا بكثرة سعادتهم فلما وصلوا غزة أقبلوا على الصيد والاجتماع والنزه. فاشتد حنق الطائفة الأويراتية الذين قدموا في أيام العادل كتبغا من أجل قتلى من قتل من أمرائهم في أيام المنصور لاجين ومن خلع كتبغا وإخراجه إلى صرخد ومن استبداد البرجية بالأمور. وعزموا على إثارة الفتنة وصاروا إلى الأمير علاء الدين قطلو برس العادلي وأقاموه كبيراً لهم واتفقوا على أن برنطاي أحد المماليك السلطانية وألوص أحد كبراء الأويراتية يهجم كل منهما على الأميرين بيبرس وسلار ويقتله ويعيدون دولة كتبغا. فلما رحل السلطان بالعسكر من غزة ونزل تل العجول ركب الأمراء للخدمة على العادة وكان بيبرس يتأدب مع سلار ويركب بين يديه فعندما ترجل الأمراء و لم يبق على فرسه سوى بيبرس وسلار شهر برنطاى سيفه - وكان ماشيًا في ركاب بيبرس - وضربه فوقعت الضربة على كفل الفرس فحلت ظهره وضرب برنطاي ثانيًا فوقعت الضربة على الكلفة فقطعتها وجرحت ووقعت الصرخة في العسكر فركب الجميع وقصد الأويراتية الدهليز السلطاني يريدون الهجمة على السلطان حتى صاروا في داخله وقد ركب الأمراء في طلبهم فركب الأمير سيف الدين بكتمر الجوكندار والمماليك السلطانية وفي ظنهم أن القصد قتل السلطان ونشروا العصائب ووقفوا. وعاد بيبرس وسلار إلى مخيمهما وأمرا الحجاب والنقباء بجمع العسكر إلى مخيم الأمير سلار النائب فكان العسكر إذا أتوا ورأوا سنجق السلطان وعصائبه منشورة مضوا إليه وتركوا سلار فيردهم الحجاب فلا يلتفت منهم أحد ولا يعود حتى يقف تحت السنجق السلطاني. فبعث سلار إلى أمير جاندار يقول: ما هذه الفتنة التي تريدون إثارتها في هذا الوقت ونحن على لقاء العدو وقد بلغنا أن الأويراتية قد وافقت المماليك السلطانية على قتلنا وكان هذا برأيك ورأى السلطان وقد دفع الله عنا. فإن كان الأمراء كذلك فنحن مماليك السلطان ومماليك أبيه الشهيد ونحن نكون فداء المسلمين وان لم يكن الأمر كذلك فابعثوا الينا غرماءنا. فلما سمع السلطان هذا بكى وحلف إنه لم يكن عنده علم. مما ذكر وحلف أمير جاندار أيضاً وقال: ولكن لما وقع ما وقع ظنوا إنهم يريدون قتل السلطان وإقامة غيره ثم قال أمير جاندار: إنما يريد الأمراء بهذا الفول أن تقبض على مماليك السلطان طائفة بعد أخرى حتى تتمكن من مرادها وان كان السلطان ومماليكه قد شوشوا على الأمراء فأنا أخذ السلطان ومماليكه وأسير إلى الكرك. فلما بلغ الأمراء ذلك عزموا أن يركبوا على أمير جاندار ثم توقفوا حتى بعثوا إلى الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح الأتابك. وكان على الجاليش وبينهما مرحلة فلم يدخل في شيء من ذلك وأوصى ألا يتعرض للسلطان بسوء. فرجع سلار إلى المداراة وركب حتى أصلح بين أمير جندار والأمراء البرجية وقبلوا جميعهم الأرض للسلطان وقبضوا على الأويراتية وعاقبوهم فاقروا. مما عزموا عليه من قتل بيبرس وسلار وإعادة دولة العادل كتبغا فزال ما كان في أنفس البرجية من موافقة السلطان وأمير جاندار للأويراتية. وشنق من الغد نحو الخمسين من الأويراتية بثيابهم وكلفاتهم ونودي عليهم: هذا جزاء من يقصد إقامة الفتن بين المسلمين ويتجاسر على الملوك. وطلب الأمير قطلوبرس فلم يوجد وكان قد فر إلى غزة واختفي بها فنهبت أثقاله كلها وأنزل بالمصلوبين في اليوم الرابع فأخذت البرجية تغرى بيبرس وتوحش بينه وبين سلار بأنه متفق عليه مع مماليك السلطان. فلما بلغ ذلك سلار تلطف مع بيبرس واتفقا على إرسال طائفة من المماليك السلطانية إلى الكرك فلم يخالفهما السلطان فأخذا منهم عدة ممن اتهماهم. بموافقة الأويراتية وحبساهم بالكرك.ثم رحل السلطان بعد عدة أيام إلى قرتية ورسم بالإقامة عليها حتى يعود الرسل بأخبار العدو وبعثوا القصاد للكشف عن ذلك وفي هذه المنزلة سالت الأودية واتلف السيل كثيراً من أثقال العسكر وافتقر عدة منهم لذهاب جمالهم وأثقالهم وتشاءموا به وتطيروا منه فكان الأمر كذلك. وعقب هذا السيل خرج جراد سد الأفق بحيث حجز الأبصار عن السماء فزاد تطير العسكر وخشوا أن يكون منذراً بقدوم العدو وكسرة العسكر وتحدث بذلك كل أحد حتى السوقة. ثم وقع الرحيل في أول ربيع الأول إلى جهة دمشق فدخلها السلطان يوم الجمعة ثامنه. ففي يوم السبت تاسعه: قدم الجفل من حلب وغيرها إلى دمشق وقدم البريد من حلب وغيرها بنزول غازان على الفرات وإنه في عسكر عظيم إلى الغاية فأنفق في العساكر لكل ما بين ديناراً وأربعين ديناراً وقد كثر الإرجاف وتتابع وصول الناس في الجفلة وشحت أنفس الجند بإخراج النفقة في شراء ما يحتاجون إليه لغلاء كل ما يباع من ذلك ولكثرة ما أحرى الله على الألسنة بكسرة العسكر ولتمكن بعض الجند في الأمراء البرجية. وقدم البريد من حلب. بمسير جاليش غازان من الفرات وعبوره وأن أهل الضياع قد جفلوا عن آخرهم وقدم الأمير أسندمر كرجي متولي فتوحات سيس بعدما أخذ حاصل تل حمدون وأحضر معه صاحب سيس فخرج عسكر دمشق وخرج السلطان بعده بعساكر مصر وقت الزوال من يوم الأحد سابع عشره وسار إلى حمص فنزل عليها وبعث العربان لكشف الأخبار. وقد نزل التتر بالقرب من سلمية ولهج كل أحد بأن العسكر مسكور وأقام العسكر لابس السلاح ثلاثة أيام وقد غلت الأسعار. فلما كان سحر يوم الأربعاء ثامن عشريه: ركب السلطان بالعساكر وجد في السير إلى الرابعة من النهار فظهرت طوالع التتر فنودي عند ذلك في العساكر: أن ارموا الرماح واعتمدوا على ضرب السيف والدبوس فألقوا رماحهم كلهم على الأرض. ومشوا ساعة ورتبوا العساكر بمجمع المروج - ويعرف اليوم بوادي الخزندار - وعدتهم بضعة وعشرون ألف فارس والتتار في نحو مائة ألف. فوقف الأمير عيسى بن مهنا وسائر العربان رأس الميمنة ويليهم الأمير بلبان الطباخي نائب حلب بعساكر حلب وحماة ووقف في الميسرة الأمير بدر الدين بكتاش أمير سلاح والأمير أقش قتال السبع وعلم الدين سنجر وطغريل الإيغاني والحاج كرت نائب طرابلس في عدة من الأمراء وكان في القلب بيبرس وسلار وبرلغي وقطلوبك الحاجب وأيبك الخازندار في عدة من الأمراء وقد جعلوا جناحهم المماليك السلطانية ووقف حسام الدين لاجين الأستادار مع السلطان على بعد من اللقاء حتى لا يعرف فيقصد وقدموا خمسمائة مملوك من الزراقين في مقدمة العساكر.وفي وقت الترتيب عرض للأمير بيبرس الجاشنكير حدة وإسهال مفرط لم يتمكن منه أن يثبت على الفرس فركب المحفة واعتزل القتال وأخذ الأمير سلار النائب معه الحجاب والأمراء والفقهاء ودار على العساكر كلها والفقهاء تعظ الناس وتقوى عزائمهم على الثبات حتى كثر البكاء. هذا وغازان ثابت لم يتحرك وقد تقدم إلى أصحابه كلهم ألا يتحرك أحد منهم حتى يحمل هو بنفسه فيتحركون عند ذلك يداً واحدة فبادر عساكر المسلمين للحركة وأشعل الزراقون النفط وحملوا على غازان فلم يتحرك وكان في الظن أن غازان أيضاً يتحرك إلى لقائهم. فمرت خيول العساكر بقوة شوطها في العدو ثم لما طال المدى قصرت في عدوها وخمد نار النفط. فحمل عند ذك غازان. بمن معه حملة واحدة حتى اختلط بالعساكر بعدما قدم عشرة آلاف مشاة يرمون بالنشاب حتى أصابت سهامهم خيولاً كثيرة وألقى الفرسان عنها. وكثرت نكاية العرب بالسهام فولى العرب أولاً وتبعهم جيش حلب وحماة فتمت هزيمة الميمنة من ميسرة غازان. وصدمت الميسرة ميمنة غازان صدمة فرقت جمعها وهزمتها عن آخرها وقتلت منها نحو الخمسة آلاف وكتب بذلك للسلطان - وهو معتزل في طائفة مع حسام الأستادار - فسر بذلك.وكاد غازان أن يولي الإدبار واستدعى قبجق نائب دمشق فشجعه قبجق وثبته حتى تلاحق به من انهزم وعاد له أمره فحمل حملة واحدة على القلب فلم يثبت له وولى سلار وبكتمر الجوكندار وبرلغى وسائر الأمراء البرجية وركب غازان أقفيتهم حتى كانت سهامه تصيب خوذة الفارس فتقدح ناراً. هذا والسلطان معتزل ومعه الحسام وهو يبكى ويبتهل ويقول: يا رب لا تجعلني كعباً نحساً على المسلمين ويهم أن يفر مع القوم فيمنعه الحسام ويقول: ما هي كسرة لكن المسلمين قد تأخروا ولم يبق معه من المماليك غير اثنى عشر مملوكاً. وعادت الميسرة الإسلامية بعد كسرة ميمنة غازان إلى حمص بعد العصر ومعهم الغنائم فإذا الأمراء البرجية أهل القلب قد انكسروا والمغل في أعقابهم فبهتوا. وخشى غازان من الكمناء فكف عن اتباع العساكر وكان ذلك من لطف الله بهم فلو قد مر في طلبهم لهلكوا من عند آخرهم. ووصل المنهزمون إلى حمص وقت الغروب وقد غنم التتر سائر ما كان معهم مما لا يدخل تحت الحصر وألقوا عن أنفسهم السلاح طلبا للنجاة فاشتد صراخ أهل حمص وصاحوا بالعسكر: الله الله في المسلمين وقد كلت الخيول فمروا إلى بعلبك ونزلوا عليها بكرة يوم الجمعة وقد غلقت أبوابها فامتاروا منها ومروا في سيرهم إلى دمشق فدخلوها يوم السبت أول ربيع الآخر وقد توجه أكثرهم على الساحل إلى مصر. فما هو إلا أن دخلوا دمشق حتى وقع الصارخ بمجيء غازان فخرجوا بعد نحو ساعة من قدومهم وتركوا سائر ما لهم وجعل أهل دمشق فتشتتوا في سائر الجهات ومر بالعسكر من العشير والعربان أهوال وأخذوا أكثر ما معهم نهباً وسرقة. وقتل في هذه الواقعة الأمير كرت نائب طرابلس والأمير ناصر الدين محمد ابن الأمير أيدمر الحلبي وبلبان التقوى من أمراء طرابلس وبيبرس الغتمي نائب قلعة المرقب وأزبك نائب بلاطنس وبيليك الطيار من أمراء دمشق ونوكاي التتري وأقش كرجي الحاجب وأقش الطروحي حاجب دمشق ونحو الألف من الأجناد والمماليك وعدم قاضي القضاة حسام الدين بن أحمد الرومي الحنفي قاضي الحنفية بدمشق وعماد الدين إسماعيل بن احمد بن سعيد بن محمد بن سعيد بن الأثير الموقع. وقتل من التتار نحو أربعة عشر ألفا. وأما غازان فإنه نزل بعد هزيمة العسكر إلى حمص - وقت عشاء الآخرة - و بها الخزائن السلطانية وأثقال العسكر فأخذها من الأمير ناصر الدين محمد بن الصارم وسار إلى دمشق بعدما امتلأت أيدي أصحابه بأموال جليلة القدر. هذا وأهل دمشق قد وقع بينهم في وقت الظهر من يوم السبت أول ربيع الآخر ضجة عظيمة فخرجت النساء باديات الوجوه وترك الناس حوانيتهم وأموالهم وخرجوا من المدينة. فمات من الزحام في الأبواب خلق كثير وانتش الناس برءوس الجبال وفي القرى وتوجه كثير منهم إلى جهة مصر. وفي ليلة الأحد: خرج أرباب السجون وامتدت الأيدي لعدم من يحمى البلد. وأصبح من بقى بالمدينة وقد اجتمعوا بمشهد على من الجامع الأموي وبعثوا إلى غازان يسألون الأمان لأهل البلد فتوجه قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة وشيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن تيمية والشريف زين الدين بن عدنان والصاحب فخر الدين بن الشيرجي وعز الدين حمزة بن القلانسي في جمع كبير من الأعيان والفقهاء والقراء إلى غازان في يوم الإثنين ثالثه بعد الظهر فلقوه بالنبك وهو سائر فنزلوا عن دوابهم ومنهم من قبل له الأرض. فوقف غازان بفرسه لهم ونزل جماعة من التتار عن خيولهم ووقف الترجمان وتكلم بينهم وبين غازان فسألوا الأمان لأهل دمشق وقدموا له مأكل كانت معهم فلم يلتفت إليها وقال: قد بعثت إليكم الأمان وصرفهم فعادوا إلى المدينة بعد العصر من الجمعة سابع الشهر ولم يخطب بها في هذه الجمعة لأحد من الملوك. وكان قد وصل إلى دمشق في يوم الخميس سادس الشهر أربعة من التتار من جهة غازان ومعهم الشريف القمي وكان قد توجه قبل توجه الجماعة هو وثلاثة من أهل دمشق إلى غازان فعاد وبيده أمان لأهل دمشق. ثم قدم في يوم الجمعة سابعه بعد صلاة الجمعة الأمير إسماعيل التتري بجماعة من التتر ودخل المدينة يوم السبت ليقرأ الفرمان بالجامع فاجتمع الناس وقرأ بعض العجم الواصلين مع الأمير إسماعيل الفرمان بتأمين الكافة وعاد إسماعيل إلى منزله بعدما صلى العصر. وفي يوم الأحد: أخذ أهل دمشق في جمع الخيل والبغال والأموال فنزل غازان على دمشق يوم الإثنين عاشره وعاثت عساكره في الغوطة وظاهر المدينة تهب وتفسد ونزل قبجق وبكتمر السلاح دار. بمن معهما في الميدان الأخضر وامتدت التتر إلى القدس والكرك تنهب وتأسر. وامتنع الأمير علم الدين سنجر المنصوري المعروف باسم أرجواش بقلعة دمشق وسب قبجق وبكتمر سباً قبيحاً وكانا قد تقدما إليه وأشارا عليه بالتسليم. وفي بكرة يوم الثلاثاء حادي عشره: تقدم الأمير إسماعيل التتري إلى القضاة والأعيان بالحديث مع أرجواش في تسليم القلعة وإنه إن امتنع نهب المدينة ووضع السيف في الكافة. فاجتمع عالم كبير وبعثوا إلى أرجواش في ذلك فلم يجب وتكررت الرسل بينهم وبينه إلى أن سبهم وجبههم وقال: قد وقعت إلى بطاقة بأن السلطان قد جمع الجيوش بغزة وهو واصل عن قريب وفي ثاني عشره: دخل الأمير قبجق إلى المدينة وبعث إلى أرجواش في التسليم فلم يجب. وفيه كتبت عدة فرمانات إلى أرجواش من قبجق ومن مقدم من مقدمي التتار ذكر إنه رضيع الملك غازان ومن شيخ الشيوخ نظام الدين محمود بن على الشيباني وغيره فلم يجب وأخذ الناس في تحصين الدروب وقد اشتد خوفهم. وفي يوم الجمعة رابع عشره: خطب لغازان على منبر دمشق بألقابه وهي: السلطان الأعظم سلطان الإسلام والمسلمين مظفر الدنيا والدين محمود غازان وصلى جماعة من المغل الجمعة. فلما انقضت الجمعة صعد الأمير قبجق والأمير إسماعيل سدة المؤذنين وقرئ على الناس تقليد قبجق بلاد الشام كلها وهى مدينة دمشق وحلب وحماة وحمص وسائر الأعمال وجعل إليه ولاية القضاة والخطباء وغيرهم. فنثرت على الناس الدنانير والدراهم وفرحوا بذلك فرحا كثيراً وجلس شيخ الشيوخ نظام الدين بالمدرسة العادية وعتب الناس لعدم ترددهم إليه ووعد بالدخول في صلح أمورهم مع غازان وطلب الأموال وتعاظم إلى الغاية واستخف بقبجق وقال: خمسمائة من قبجق ما يكونون في خاتمي. وصار نظام الدين يضع من قلعة دمشق ويستهين بها ويقول: لو أردنا أخذها أخذناها من أول يوم وكان لا يزال الدبوس على كتفه و لم يكن فيه من أخلاق المشايخ ما يمدح به بل أخذ نحو الثلاثين ألف دينار برطيلاً حتى قال فيه علاء الدين بن شيخ غازان ما خلا أحد من تجرده وغدا الكل لابسي خرقة الفقر من يده وفي خامس عشره: بدأ التتر في نهب الصالحية حتى أخذوا ما بالجامع والمدارس والتراب من البسط والقناديل ونبشوا على الخبايا فظهر لهم منها شيء كثير حتى كأنهم كانوا يعلمون أماكنها فمضى ابن تيمية في جمع كبير إلى شيخ الشيوخ وشكوا ذلك فخرج معهم إلى حي الصالحية في ثامن عشره ليتبين حقيقة الأمر ففر التتر لما رأوه والتجأ أهل الصالحية إلى دمشق في أسوأ حال. وكان سبب نهب الصالحية أن متملك سيس بذل فيها مالاً عظيماً وكان قد " قصد خراب دمشق عوضاً عن بلاده فتعصب الأمير قبجق ولم يمكنه من المدينة ورسم له بالصالحية فتسلمها متملك سيس وأحرق المساجد والمدارس وسبى وقتل وأخرب الصالحية فبلغت عدة من قتل وأسر منها تسعة ألاف وتسعمائة نفس. ولما فرغوا من الصالحية صار التتر إلى المزة وداريا ونهبوهما وقتلوا جماعة من أهلهما فخرج ابن تيمية في يوم الخميس عشريه إلى غازان بتل راهط ليشكو له ما جرى من التتار بعد أمانه فلم يمكنه الاجتماع به لشغله بالسكر فاجتمع بالوزيرين سعد الدين ورشيد الدين فقالا: لابد من المال فانصرف. واشتد الطلب للمال على أهل دمشق واستمر الحصار وتعين نصب المنجنيق على القلعة بالجامع وهيموا أخشابه ولم يبق إلا نصبه. فبلغ ذلك أرجواش فبعث طائفة هجمت على الجامع على حمية وأفسدت ما تهيأ فيه فأقام التتر منجنيقاً آخر بالجامع واحترزوا عليه. واتخذوا الجامع حانة يزنون ويلوطون ويشربون الخمر فيه ولم تقم به صلاة العشاء في بعض الليالي ونهب التتر ما حول الجامع من السوق. فانتدب رجل من أهل القلعة لقتل المنجنيقي ودخل الجامع والمنجنيقي في ترتيب المنجنيق والمغل حوله فهجم عليه وضربه بسكين فقتله. وكان معه جماعة تفرقوا في المغل يريدون قتلهم ففروا وخلص الرجل بمن معه إلى القلعة سالماً. وأخذ أرجواش في هدم ما حول القلعة من العمائر والبيوت وصيروها دكا لئلا يستتر العدو في المنازلة بجدرانها فأحرق ذلك كله وهدمه من باب النصر إلى باب الفرج وشمل الحرق دار الحديث الأشرفية وعدة مدارس إلى العادلية وأحرق أيضاً بظاهر البلد شيء كثير وأحرق جامع التوبة بالعقيبة وعدة قصور وجواسق وبساتين. واشتد الأمر في طلب المال وغلت الأسعار حتى أبيع القمح بثلاثمائة وستين درهماً الغرارة والشعير. بمائة وثمانين درهماً والرطل الخبز بدرهمين والرطل اللحم باثني عشر درهماً والرطل الجبن باثني عشر درهماً والرطل الزيت بستة دراهم وكل أربع بيضات بدرهم ووزعت الأموال فقرر على سوق الخواصين مائة وثلاثون ألف درهم وعلى سوق الرماحين مائة ألف درهم وعلى سوق على مائة ألف درهم وعلى سوق النحاسين ستون ألف درهم وعلى قيسارية الشرب مائة ألف درهم وعلى سوف الذهبيين ألف وخمسمائة دينار وقرر على أعيان البلد تكملة ثلاثمائة ألف دينار جبيت من حساب أربعمائة ألف ورسم على كل طائفة جماعة من المغل فضربوا الناس وعصروهم وأذاقوهم الخزي والذل. وكثر مع ذلك القتل والنهب في ضواحي دمشق حتى يقال إنه قتل من الجند والفلاحين والعامة نحو المائة ألف إنسان فقال في ذلك كمال الدين ابن قاضي شهبة: رمتنا صروف الدهر منها بسبع فما أحد منا من السبع سالم غلاء وغازان وغزو ى غارة وغدر وإغبان وغم ملازم وقال الشيخ كمال الدين محمد بن على الزملكاني أيضاً: لهفي على جلق يا سوء ما لقيت من كل علج له في كفره فن بالطم والرم جاءوا لا عديد لهم فالجن بعضهم والحن والبن و كان ما حمل لخزانة غازان وحده على يد وجيه الدين بن المنجا مبلغ ثلاثة آلاف وستمائة ألف درهم سوى السلاح والثياب والدواب والغلال وسوى ما نهبته التتار فإنه كان يخرج إليهم من باب شرقي كل يوم أربعمائة غرارة. ورسم غازان بأخذ الخيول والجمال فأخرج من المدينة زيادة على عشرين ألف حيوان وأخذ الأصيل بن النصير الطوسي منجم غازان وناظر أوقاف التتار عن أجرة النظر بدمشق مائتي ألف درهم وأخذ الصفي السنجاري الذي تولى الاستخراج لنفسه مائة ألف درهم وهذا سوى ما استخرج للأمير قبجق والأمراء المغل وسوى المرتب لغازان في كل يوم. فلما انتهت الجباية أقر غازان في نيابة دمشق الأمير قبجق وفي نيابة حلب وحماة وحمص الأمير بكتمر السلاح دار وفي نيابة صفد وطرابلس والساحل الأمير الألبكي. وجعل مع كل واحد عدة من المغل وأقام مقدماً عليهم لحماية الشام قطلوشاه وجرد عشرين ألفاً من عسكره مع أربعة من المغل بالأغوار. ورحل غازان في يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولى وترك على دمشق نائبه قطلوشاه نازلاً بالقصر وأخذ وزيره من أعيان دمشق بدر الدين محمد بن فضل الله وعلاء الدين على بن شرف الدين محمد بن القلانسي وشرف الدين محمد بن شمس الدين سعيد بن محمد سعيد بن الأثير. فلما كان يوم السبت ثالث عشره: بعد رحيل غازان أمر التتر الذين بدمشق أن يخرج من كان في المدرسة العادلية فكان إذا خرج أحد أخذوا منه ما يقع اختيارهم عليه بعد التفتيش ثم دخلوا فكسروا أبواب البيوت ونهبوا ما فيها ووقع النهب في المدينة فأخذوا نحوا مما استخرج من الأموال أولاً وأحرقوا كثيراً من الدور والمدارس: فاحترقت دار الحديث الأشرفية وما حولها ودار الحديث النورية والعادلية الصغرى وما جاورها والقيمرية وما جاورها إلى دار السعادة وإلى المارستان النوري ومن المدرسة الدماغية إلى باب الفرج. وأخذوا ما حول القلعة وركبوا الأسطحة ليرموا بالنشاب على القلعة فأحرق عند ذلك أرجواش ما حول القلعة وخربه كما تقدم واستمر قطلوشاه مقدم التتار يحاصر القلعة. وفي تاسع عشره: قرئ بالجامع كتاب تولية قبجق نيابة الشام وكتاب بتولية الأمير ناصر الدين يحيى بن جلال الدين الختني الوزارة. وفي حادي عشريه: احترقت المدرسة العادلية. فلما عدى غازان الفرات أشار قبجق وبكتمر السلاح دار على قطلوشاه أن يتحول عن دمشق إلى حلب بمن معه من التتار وجمع قبجق له مالاً من الناس وسار قطلوشاه في يوم الإثنين ثاني عشرى جمادى الأولى وترك طائفة من التتر بدمشق وخرج قبجق لوداعه وعاد في خامس عشريه ونزل بالقصر.الأبلق ونودي في سادس عشريه ألا يخرج أحد إلى الجبل والغوطة ولا يغرر بنفسه ثم نودي بخروج أهل الضياع إلى ضياعهم. وفي تاسع عشريه: تحول الأمير قبجق إلى المدينة وأقام بها. وفي يوم الثلاثاء أول جمادى الآخرة: نودي بخروج الناس إلى الصالحية وغيرها فخرجوا إلى أماكنهم وفتحت الأسواق وأبواب المدينة. وفي يوم الجمعة رابعه: دقت البشائر بالقلعة. وفي سابعه: أمر قبجق جماعة من أصحابه وأمر بإدارة الخمارة بدار ابن جرادة فظهرت الخمور والفواحش وضمنت في كل يوم بألف درهم. هذا وقد نهبت التتار الأغوار حتى بلغوا إلى القدس وعبروا غزة وقتلوا بجامعها خمسة عشر رجلاً وعادوا إلى دمشق وقد أسروا خلقاً كثيراً فخرج إليهم ابن تيمية ومازال يحدثهم حتى أفرجوا عن الأسرى ورحلوا عن دمشق يريدون بلادهم في ثاني رجب. وأما السلطان الملك الناصر فإن العساكر تفرقت عنه وقت الهزيمة و لم يبق معه إلا بعض خواصه والأميرين زين الدين قراجا وسيف الدين بكتمر الحسامي أمير أخور في نفر يسير. وبالغ بكتمر مدة السفر إلى مصر في خدمة السلطان بنفسه وماله فكان يركبه وينزله ويشد خيله ويشتري لها العليق ويسقيها إلى غير ذلك من أنواع الخدمة حتى قدم إلى قلعة الجبل يوم الأربعاء ثاني عشر ربيع الآخر. ثم ترادفت العساكر إلى الديار المصرية شيئاً بعد شيء في أسوأ حال وكان ممن قدم معهم الملك العادل كتبغا وصار يمشي في خدمة الأمير سلار نائب السلطة ويجلس بين يديه ويرمل عليه إذا علم على المناشير وغيرها. واتفق مع ذلك إنه لما كان كتبغا سلطاناً نودي على جوسن للبيع فبلغ ثمنه على بيبرس الجاشنكير أربعة آلاف درهم ثم عرض على كتبغا وقيل له إنه على بيبرس بكذا فقال: وهذا يصلح لذاك الخرياطي وأخذ الجوسن بثمنه. فلما زالت أيامه صار الجوسن لبيبرس بعد لاجين فأراد نكاية كتبغا وأحضر الجوسن وكتبغا عنده ولبسه وقال له: يا أمير إيش تقول يصلح هذ لي فلم يفطن كتبغا لما أراد وقال له: والله يا أمير هذا كأنه فصل لك فنظر بيبرس إلى الأمراء يشير إليهم فاشتد عجبهم من تغير الأحوال فلم يشاهد أعجب من ذلك. وأقيم العزاء في الناس لمن فقد وكانوا خلقاً كثيراً. ثم أخذ السلطان الناصر في التجهيز للمسير إلى الشام ثانياً وشرع الأمراء في الاهتمام بأمر السفر وجمعوا صناع السلاح للعمل. وأخذ الوزير في جمع الأموال للنفقة وكتب إلى أعمال مصر بطلب الخيل والرماح والسيوف من سائر الوجهين القبلي والبحري فبلغ القوس الذي كان يساوي ثلاثمائة درهم إلى ألف درهم وأخذت خيول الطواحين وبغالها بالأثمان الغالية وطلبت الجمال والهجن والسلاح ونحو ذلك. فأبيع ما كان. بمائة بسبعمائة وبألف ونودي بحضور الأجناد البطالين فحضر خلق كثير من الصنائعية ونزلوا أسماءهم في البطالين. وفرقت أخباز المفقودين ورسم لكل من أمراء الألوف بعشرة من البطالين يقوم بأمرهم ولكل من الطبلخاناه بخمسة ولكل من العشراوات برجلين. واستخدم جماعة من الأمراء الغزاة المطوعة احتساباً. واستدعى مجدي الدين عيسى بن الخشاب نائب الحسبة ليأخذ فتوى الفقهاء بأخذ المال من الرعية للنفقة على العساكر فأحضر فتوى الشيخ عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام للملك المظفر قطز بأن يؤخذ من كل إنسان دينار فرسم له سلار بأخذ خط الشيخ تقي الدين محمد بن دقيق العيد فأبي أن يكتب بذلك فشق هذا على سلار واستدعاه وقد حضر عنده الأمراء وشكا إليه قلة المال وأن الضرورة دعت إلى أخذ مال الرعية لأجل دفع العدو وأراد منه أن يكتب على الفتوى بجواز ذلك فامتنع فاحتج عليه ابن الخشاب بفتوى ابن عبد السلام فقال: لم يكتب ابن عبد السلام للملك المظفر قطز حتى أحضر سائر الأمراء ما في ملكهم من ذهب وفضة وحلي نسائهم وأولادهم هم ورأه وحلف كلاً منهم إنه لا يملك سوى هذا كان ذلك غير كاف فعند ذلك كتب بأخذ الدينار من كل واحد. وأما الآن فيبلغني أن كلاً من الأمراء له مال جزيل وفيهم من يجهز بناته بالجواهر واللآلئ ويعمل الإناء الذي يستنجي منه في الخلاء من فضة ويرصع مداس زوجته بأصناف الجواهر وقام عنهم فطلب ناصر الدين محمد بن الشيخي متولي القاهرة ورسم له بالنظر في أموال التجار ومياسير الناس وأخذ ما يقدر عليه من كل منهم بحسب حاله. فما أهل جمادى الأولى حتى استجد عسكر كبير وغصت القاهرة ومصر وما بينهما بكثرة من ورد من البلاد الشامية حتى ضاقت بهم المساكن ونزلوا بالقرافة الخمور وشق ظروفها على يد ابن تيمية. وعندما تكملت النفقة على العساكر نودي بالقاهرة ومصر بالسفر ومن تأخر شنق ورسم أن يكون سعر الدينار عشرين درهماً. وخرج السلطان في تاسع رجب فسار إلى الصالحية وقدمت إليه كتب الأمير قبجق و بكتمر السلاح دار و الألبكي بقدومهم صحبة عز الدين حمزة بن القلانسي والشريف ابن عدنان فأقام السلطان بالصالحية. وسار الأميران سلار نائب السلطنة و بيبرس الجاشنكير الأستادار بالعساكر إلى دمشق في ثاني عشرى رجب فلقوا الأمير قبجق ومن معه بين غزة وعقلان فترجل كل منهم لصاحبه وتباركوا وأنزلوا ورتب لهم ما يليق بهم وأمروا بالتوجه إلى السلطان وسار الأمراء بالعساكر إلى دمشق. فقدم قبجق بمن معه إلى الصالحية في عاشر شعبان فركب السلطان إلى لقائهم وبالغ في إكرامهم والإحسان إليهم وأنزلهم ثم سار بهم إلى قلعة الجبل فقدمها في رابع عشره. ودخل الأمير جمال الدين أقش الأفرم إلى دمشق في يوم السبت عاشر شعبان. وفي حادي عشره: قدم إليها الأمير قرا سنقر المنصوري نائب حلب بعساكرها وقد استقر عوضاً عن بلبان الطباخي واستقر الطباخي من أمراء مصر بالخدمة السلطانية على إقطاع أقسنقر كرتاي بعد موته. ودخل الأمير أسندمر كرجي نائب الفتوحات الطرابلسية بعساكرها وقد استقر عوضاً عن الأمير قطلوبك. وفي ثاني عشره: قدمت ميسرة العساكر المصرية ومقدمها الأمير بدر الدين بكتاش الفخري أمير سلاح. وفي ثالث عشره: قدمت ميمنة العساكر المصرية مع الأمير حسام الدين لاجين أستادار. وفي رابع عشره: قدم الأمير سلار النائب والمماليك السلطانية والملك العاد ل كتبغا - وقد استقر في نيابة حماة عوضاً عن قرا سنقر المنتقل لنيابة حلب - والأمير كراي المنصوري المستقر في نيابة صفد. ونزل الأمير سلار بالميدان وجلس في دار العدل بحضور الأمراء والقضاة وخلع وفي خامس عشره: ولى سلار قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة قضاء دمشق عوضاً عن إمام الدين عمر بن سعد الدين الكرجي القزويني القونوي بعد وفاته. وفي حادي عشريه: ولى قاضي القضاة شمس الدين محمد بن صفي الدين الحريري قضاء الحنفية وولى الأمير سيف الدين أقبجا المنصوري شد الدواوين وولي عز الدين أيبك النجيبي بر دمشق وولي أمين الدين يوسف الرومي إمام المنصور لاجين حسبة دمشق وولي تاج الدين بن الشيرازي نظر الدواوين. وسير سلار عسكراً إلى حلب فطرقها على غفلة وأوقع. بمن فيها من أصحاب غازان وقتلهم فلم يفلت منهم إلا القليل ولحقوا بغازان وعرفوه غدر قبجق بهم. وتوجه الملك العادل كتبغا إلى حماة بعدما كان يركب في دمشق بخدمة الأمير سلار ويجلس بين يديه كما كان يفعل بالقاهرة فشاهد الناس من ذلك ما فيه أعظم عبرة وقدم كتبغا حماة في رابع عشرى شعبان واستقر كل نائب في مملكته. وكان السعر بدمشق غالياً فانحطت الغرارة القمح من ثلاثمائة درهم إلى مائة وخمسين وأبيع اللحم الضأن بدرهمين الرطل الدمشقي. وتتبع الأمير جمال الدين أقش الأفرم نائب السلطنة بالشام من كان بدمشق من المفسدين الذين تولوا استخراج المال في أيام غازان من الناس والذين دلوا على عورات الناس. فسمر بعضهم وشنق بعضهم وقطع أيدي جماعة وأرجلهم ومن المفسدين من قطع لسانه وكحل فمات من يومه. وخلع سلار على الأمير أرجواش نائب القلعة وأنعم عليه بعشرة آلاف درهم وطلبت مشايخ قيس ويمن من العشير والعربان وألزموا بإحضار ما أخذ من العسكر وأهل البلاد في توجههم إلى مصر وقت الجفلة. وكان غازان لما أخذ البلاد وعاد إلى الشرق طمع الأرمن في البلاد التي افتتحها المسلمون وأخذوا تل حمدون وغيرها. فلما استقرت الأحوال ببلاد الشام خرج الأميران بيبرس و سلار بعسكر مصر من دمشق يوم السبت ثامن شهر رمضان يريدان مصر فوصلا قلعة الجبل في يوم الثلاثاء ثالث شوال بعدما ركب السلطان إلى لقائهم وكان يوما مشهودًا. وعندما استقر الأمراء سأل الأمير قبجق أن ينعم عليه بنيابة الشوبك فأجيب إلى ذلك وخلع عليه. وأنعم على الأمير بكتمر السلاح دار بإمرة مائة بديار مصر وعلى الأمير فارس الدين ألبكي الساقي بإمرة مائة بدمشق. وفي عشرى شوال: توجه الأمير أقش الأفرم من دمشق لغزو الدرزية أهل جبال كسروان فإن ضررهم اشتد ونال العسكر عند إنهزامها من غازان إلى مصر منهم شدائد ولقيه نائب صفد بعسكره ونائب حماة ونائب حمص ونائب طرابلس بعساكرهم. فاستعدوا لقتالهم وامتنعوا بجبلهم وهو صعب المرتقى وصاروا في نحو اثني عشر آلف رام. فزحفت العساكر السلطانية عليهم فلم تطقهم وجرح كثير منهم فافترقت العساكر عليهم من عدة جهات وقاتلوهم ستة أيام قتالًا شديداً إلى الغاية فلم يثبت أهل الجبال وانهزموا. وصعد العسكر الجبل بعدما قتل منهم وأسر خلقا كثيراً ووضع السيف فيهم فالقوا السلاح ونادوا الأمان فكفوا عن قتالهم. واستدعوا مشايخهم وألزموهم بإحضار جميع ما أخذ من العسكر وقت الهزيمة فأحضروا من السلاح والقماش شيئاً كثيراً وحلفوا إنهم لم يخفوا شيئاً فقرر عليهم الأمير أقش الأفرم مبلغ مائة ألف درهم جبوها وأخذ عدة من مشايخهم وأكابرهم وعاد إلى دمشق يوم الأحد ثالث ذي القعدة وبعث البريد بالخبر إلى السلطان. وألزم الأمير أقش الأفرم أهل دمشق بتعليق السلاح في الحوانيت وملازمة الرمي بالنشاب ونودي بذلك. وألزم قاضي القضاة بدر الدين محمد بن جماعة فقهاء دمشق بذلك وجلس لعرض الناس في حادي عشريه وعرض الكافة طائفة بعد طائفة من الأشراف والفقهاء وأهل الأسواق وقدم على أهل الأسواق رجالاً يلي كل رجل سوقاً. وتتبع الناس بديار بكر التتر فقتلوا منهم ولم تخرج هذه السنة إلا وأهل دمشق في فقر مدقع وفي ذلك يقول علاء الدين على ابن مظفر الوداعي: أما دمشق فأهلها قد أصب بكرية جعلوا التسنن مذهبا سراً وجهراً أنفقوا أموالهم حتى تجلل كل شخص بالعبا ما لبست الصوف من عبث لا ولا الخلقان مجانا إنه زي لمن هو من فقراء الشيخ غازنا وذهب لأهل مصر مال كثير في حركة غازان إلا إنهم لسعة أحوالهم لم يبالوا بذلك. ومات في هذه السنة ممن له ذكر علاء الدين أحمد بن تاج الدين عبد الوهاب بن خلف بن محمود بن بدر العلامي المعروف بابن بنت الأعز الشافعي درس بالكهارية والقطبية من القاهرة وولي الحسبة وكان أديباً فصيحاً جميلا فيه مكارم ومروءة لطيف المزاج بساما شهمًا جزلا حج ودخل اليمن مراراً ومن شعره في مليح سبح في النيل وتلطخ بالتراب: فكأنه بدر عليه سحابة والتراب ليل من سناه أقمرا وقال: في السمر معان لاترى في البيض تالله لقد نصحت في تعريض ما الشهد إذا أطعمته كاللبن يكفي فطنا محاسن التعريض ومات شهاب الدين احمد بن الفرج بن أحمد اللخمي الإشبيلي ولد سنة خمس وعشرين وستمائة. وتفقه على ابن عبد السلام بدمشق وكان شافعياً وله قصيدة في علم الحديث. ومات الأمير صارم الدين أزبك نائب قلعة بلاطنس واستشهد في نوبة غازان على حمص في ثامن عشرى ربيع الأول. ومات الأمير أقش كرجي المطروحي الحاجب. ومات أقسنقر كرتاي أحد أمراء الألوف. ومات الأمير بلبان التقوى أحد أمراء طرابلس. وتوفي كاتب السر عماد الدين أبو الفداء إسماعيل بن التاج أحمد بن سعيد بن محمد ابن الأثير الحلبي بعدما صرف. ومات الفقير المعتقد بدر الدين أبو على الحسن بن عضد الدولة أبي الحسن على أخي المتوكل على الله أبي عبد الله محمد بن يوسف بن هود في شعبان ومولده بمرسية
سنة ثلاث وثلاثين وستمائة كان أبوه نائب السلطنة بها عن المتوكل فتزهد هو وحج وسكن دمشق وكانت له أحوال عجيبة. ومات بيبرس الغتمي نائب حصن المرقب. ومات بكتاش المنصوري الطيار أحد أمراء دمشق. ومات ناصر الدين محمد بن أيدمر الحلبي أحد أمراء مصر. ومات نوكاي بن بيان التتري أبو خوند منكبك امرأة الصالح على بن قلاوون وأبو خوند أردكين امرأة الأشرف خليل. ومات علاء الدين على ابن الشيخ إبراهيم بن معضاد الجعبري. ومات الأمير ناصر الدين محمد بن الحلي. وهؤلاء استشهدوا بوقعة حمص ما بين قتيل في المعركة ومجروح مات من جراحته بعد ذلك. ومات الطواشي حسام الدين بلال المغيثي الجلالي. بمنزلة السوادة في تاسع ربيع الآخر فدفن بقطيا ثم نقل إلى تربته بالقرافة وكان خيراً ديناً. ومات الأمير سيف الدين جاغان الحسامي بأرض البلقان.وتوفي قاضي القضاة إمام الدين عمر بن سعد الدين عبد الرحمن بن عمر بن أحمد بن محمد القزويني الشافعي قاضي قضاة دمشق بالقاهرة في يوم الثلاثاء خامس عشرى ربيع الآخر. ومات تاج الدين أبو محمد عبد الوهاب بن أبي عبد الله محمد بن عبد الدائم بن منجا بن على البكري التيمي القرشي النويري في يوم الخميس ثاني عشرى ذي الحجة وهو والد الشهاب أحمد النويري المؤرخ الكاتب. ومات شمس الدين محمد بن صدر الدين سليمان بن أبي العز وهيب الدمشقي الحنفي بدمشق في. ومات حسام الدين أبو الفضائل حسن بن تاج الدين أبي المفاخر أحمد بن حسن بن أبو شر وان الرومي قاضي القضاة الحنفية بالقاهرة ومصر ودمشق فقد من الصف على حمص يوم الأربعاء سابع عشرى ربيع الأول فلم يعرف له خبر وعمره نحو السبعين سنة. ومات الأمير علاء الدين قطلوبرس العادلي مشنوقاً بدمشق ظفر به بعد هروبه. ومات شرف الدين أبو محمد الحسن بن على بن عيسى بن الحسن اللخمي عرف بابن الصيرفي في خامس عشرى ذي الحجة وهو في عشر التسعين.أهلت هذه السنة وقد ورد الخبر بحركة غازان إلى بلاد الشام فوقع الاهتمام بالسفر. واستدعى السلطان الوزير شمس الدين سنقر الأعسر والأمير ناصر الدين محمد ابن الشيخي والى القاهرة وأمرا باستخراج الأموال من الناس وكتب إلى الشام بذلك. فشرعا في الاستخراج وألزم أرباب العقارات والأغنياء. بمال تقرر على كل منهم وجلسا بدار العدل تحت القلعة حيث الطبلخاناه الآن والناس تحمل المال أولاً بأول حتى أخذا مائة ألف دينار جبيت من القاهرة ومصر والوجهين القبلي والبحري فنزل بالناس ضرر عظيم. وطلب من شهود القاهرة ومصر الجالسين بالحوانيت مبلغ أربعين دينارًا من كل عائد وعشرين ديناراً من كل شاهد فقام في أمرهم قاضي القضاة زين الدين على بن مخلوف المالكي حتى أعفوا منه. وانطلقت الألسن بالشام ومصر في حق أهل الدولة واستخف العامة بالأجناد وأكثروا من قولهم للجند: بالأمس كنتم هاربين واليوم تريدون أخذ أموالنا فإن أجابهم الجندي قالوا له: لم لا كانت هذه الحرمة في المغل الذين فعلوا بكم كيت وكيت وهربتم منهم فلما فحش أمر العامة في تجرئهم على الأجناد نودي في القاهرة ومصر: أي عامي تكلم مع جندي كانت روحه وماله للسلطان. واستخرج من دمشق أجرة الأملاك والأوقاف لأربعة أشهر فأخذ ذلك من سائر ما في المدينة وضواحيها وأخذ من الضياع عن كل مدى ستة دراهم وثلثا درهم والمد أربعون ذراعاً في مثلها وتكسيره ألف وستمائة ذراع بذراع العمل وطلب من الفلاحين نظير مغل سنة ثمان وتسعين وأخذ من الأغنياء ثلث أموالهم. فنزلت بالناس شدائد وقطعوا الأشجار المثمرة وباعوها حطبًا حتى أبيع القنطار الحطب الدمشقي بثلاثة دراهم يخرج منها في أجرة قطعه درهم ونصف. فخربت الغوطة من ذلك وفر كثير من الناس إلى مصر. فلما جبيت الأموال بدمشق استخدم السلطان عدة ثمانمائة من التركمان والأكراد ودفع لكل واحد ستمائة درهم فهرب أكثرهم لما علموا بوصول التتار الفرات وذهب المال ولم يجد نفعاً. واستخدم السلطان بمصر عدة كبيرة من أهل الصنائع ونحوهم. ونزل الأمراء في الخيم. بميدان القبق لعرض العسكر بخيولهم ورماحهم حتى تعتبر أحوالهم وعرضوا في كل يوم عشرة مقدمين من الحلقة. بمضافيهم فقطعوا يسيرا منهم ثم أبقوا الجميع لما داجى عليهم المقدمون في أمر الجند حتى اقروا من هو دخيل فيهم. وأنهوا العرض في عشرين يوماً ورميت الإقامات. وهذا وقد امتلأت أرض مصر بالجفلى من البلاد الشامية ورخصت الأسعار عند قدومهم حتى أبيع وخرج السلطان من القلعة يوم السبت ثالث عشر صفر إلى الريدانية خارج القاهرة وتلاحقت به الأمراء والعساكر فسار إلى غزة وأقام بها يومين.
|